بقلم - د. حسن أبوطالب
فى بيان نعى قتلى داعش فى سيناء صورة مجمعة لخمسة وثلاثين من عتاة الإرهابيين، تبرز ملامح بعضهم غير المصرية، وقدرا من الثقة الزائدة بالنفس تعكس قناعة زائفة أنهم يحملون راية الجهاد من أجل إقامة الشريعة ضد أناس ينكرونها. فكرة القيام بعمل جليل من أجل رفعة الدين هى أول ما يتم بثه فى عقول مشوشة لا تعرف الحد الأدنى من المعرفة حول الإسلام ومقاصده العليا، وكل ما تعتنقه يتلخص فى أمرين, زجر الناس وقتلهم، وثانيا انتظار المكافأة العُليا فى الجنة. مثل هذا التفكير البائس يتطلب جهودا كبيرة من أجل فضحه وكشف كل ما فيه من زيف وحمق وخروج عن الإسلام شكلا ومضمونا، جوهرا وروحا.
ما يهمنا فى هذا البيان أو بالأحرى هذا النعى الباكى انه يثبت الفرضية التى تعمل على أساسها الدولة المصرية، وهى أننا نحارب الإرهاب نيابة عن المنطقة وعن العالم بأسره. المعركة ضد إرهاب داعش ومجمل الجماعات الدينية الإرهابية المسلحة لم تنته بعد سقوط دولة الخلافة المزعومة فى العراق وسوريا. الإحصاءات التى تنشرها مراكز بحوث أوربية متخصصة فى متابعة الأفراد الذين انضموا إلى داعش فى السنوات الخمس الماضية تؤكد أن هناك الكثير من حاملى الجنسيات الاوربية وجنسيات أخرى يحملون الأفكار التكفيرية للعالم كله ما زالوا فى العراق وسوريا وليبيا، وأن الكثير منهم موزعون على عدة دول افريقية. وأن بعضا منهم مُكلف بدخول مصر بأي صورة ممكنة وغالبا الهروب عبر الدروب الصحراوية أو ثغرات بحرية إلى مصر، وإنشاء خلايا تخريبية فى أكثر من منطقة ومحافظة مع تركيز أكبر فى شمال سيناء، من أجل إقامة بؤرة تمركز لعلها تتطور لاحقا الى أن تكون عنوانا لدويلة خلافة مزعومة كما كان الحال فى العراق وسوريا. ونذّكر هنا بما قاله الرئيس التركى أمام تجمع حزبى فى انقرة بأن أعضاء داعش فى العراق وسوريا أرسلوا إلى سيناء للعمل بها. وكنا طالبنا من قبل بأن يتجرأ الرئيس التركى على بيان من هم الذين أرسلوا عناصر داعش الإرهابيين الى سيناء وما هو دور تركيا فى هذه العملية القذرة. لكن تصريح أردوغان يكشف نفسه بنفسه.
ووفقا للبيانات الصادرة عن القوات المسلحة يتأكد أن الوجود الإرهابى فى أجزاء من شمال سيناء كان يخطط لعمليات إرهابية كبرى لعلها تدفع مؤسسات الدولة الى الانسحاب كما حدث فى العراق وسوريا من قبل، ثم يعلن الإرهابيون قيام كيان إرهابى على جزء من سيناء يعوضهم عن الهزيمة التى أنهت دولتهم المزعومة فى الموصل والرقة وغيرهما، ثم استغلال ذلك التطور من أجل إفساح المجال أمام تدخل قوات إسرائيلية وأمريكية بزعم محاربة «دويلة داعش» الجديدة التى لم تفلح الدولة المصرية فى هزيمتها، ومن ثم احتلال مساحات من الأرض المصرية يتم التصرف فيها بعيدا عن السيادة المصرية، كما يحدث تماما فى شمال سوريا وأجزاء أخرى فى غرب وجنوب البلاد، حيث يتم تقسيم الأرض السورية بكل بجاحة بزعم الاستمرار فى محاربة داعش.
لم يكن لدينا كمصريين أى شك بأن هؤلاء الإرهابيين وراءهم دول كبرى وتحركهم أجهزة مخابرات عاتية، الأسلحة والاجهزة المكتشفة بالملايين من الدولارات، هدفهم الأول والاكبر هو اسقاط مصر فى دوامة العنف والخراب. ولم يكن لدينا ذرة من شك بأن قدر مصر يتلخص فى كلمتين أن تحارب هؤلاء حتى النهاية وأيا كانت التضحيات، وأن تقطع دابرهم واحدا تلو الآخر. كل يوم يثبت أننا كمصريين كنا على حق، ما يجرى فى العملية الشاملة سيناء يجسد هذه القناعة، ليس على مستوى القيادات العليا للدولة وحسب، بل لدى كل مواطن مصرى يعشق تراب هذا الوطن مهما يناله من تعب اقتصادى أو معاناة عابرة. بهذا التوافق الوطنى نتوقع وننتظر أن تكون هناك بيانات أخرى من داعش ومن الجماعة الارهابية الاخرى تبكى قتلاهم يوما بعد الآخر وحتى ينتهوا جميعا.
بيانات «داعش» لها جانب إيجابى، فقد أسقطت تلك الخرافات والاتهامات الباطلة لمنظمات دولية فقدت مصداقيتها بأن مصر باتت من دول الاختفاء القسرى للنشطاء المسالمين. داعش يقدم الدليل على أن الادعاء بالاختفاء القسرى الموهوم هو فى الواقع دليل إدانة لكل خائن لبلده ولكل طرف يسعى إلى تشويه الجيش والشرطة ومؤسسات الدولة المصرية. هؤلاء هربوا بقناعاتهم الذاتية أو تحت تأثير التشوش الدينى أو بسبب تنشئة دينية عبثية، وقرروا الالتحاق بجماعات إرهابية تستهدف بلدهم الذى ولدوا فيه، ولكنهم خانوه وتآمروا عليه فكانت نهايتهم أسوأ النهايات. من يدعى منهم باختفاء قسرى لقريب أو ابن هو امتداد لجماعة إرهابية قلبا وقالبا. من قدم تلك البلاغات تجب محاسبته على كذبه وعلى تآمره على بلده.
حين يبكى «داعش» قتلاه، فى بيانات مقرونة بصور شخصية لأعضائه الإرهابيين ومقاطع مصورة تبرز أفعالهم المشينة وكأنهم أبطال، يفعل ذلك وفق التقاليد التى استحدثها تنظيم «القاعدة» من قبل لسببين رئيسيين، أولهما أن يقدم التنظيم نوعا من التكريم المعنوى لأعضائه المقتولين، وأن يبرز ما يعتبره سجاياهم الشخصية والإيمانية وانجازاتهم وتضحياتهم من أجل التنظيم وأهدافه الكبرى. وثانيهما أن تُصاغ هذه البيانات بطريقة تجذب المزيد من ضعاف النفوس ومحدودى الفهم والتعقل للانضمام إلى التنظيم لكى ينالوا فى الآخرة الجزاء الاكبر باعتبارهم شهداء من أجل الدين. وكثيرا ما نجحت مثل تلك البيانات المراوغة فى تحقيق أهدافها. وفى دراسة لى سبق نشرها حول لماذا أنكرت القاعدة مسئوليتها عن هجمات سبتمبر 2001 لمدة عام كامل، ثم اعترفت بذلك من خلال بيانات وافلام مصورة للافراد الذين شاركوا فيها باعتبارهم غزاة لبلاد الكفار، تم تبرير أمر الافصاح بعد الإنكار بأنه لرفع الروح المعنوية لأعضاء التنظيم الذين تعرضوا لضربات أمريكية انتقامية شديدة الوطأة، ولتأكيد على أن التنظيم لا يتخلى عن أعضائه حتى بعد موتهم، فضلا عن إثبات وقائع التاريخ من وجهة نظر التنظيم.
فى اعتقادى أن بيان داعش الباكى يستهدف الأهداف الثلاثة معا، إضافة إلى سبب رابع يتعلق بالإيحاء أن له قواعد منتشرة فى شمال سيناء، ولكنها فى محنة وأن الأعضاء الآخرين عليهم الإسراع بالمساندة. وهو ما لن يحدث أبدا.
نقلا عن الاهرام القاهريه