بقلم - د. حسن أبوطالب
المؤكد أن زيارة الرئيس البشير ولقاءه بالرئيس السيسى قد دشنت مرحلة جديدة للعلاقات بين البلدين، ربما أهم رسائلها أن مرحلة التوتر وما صاحبها من تشنج فى تصريحات بعض المسئولين السودانيين وحملات إعلامية التى استمرت عدة أشهر، ووصلت إلى ذروتها حين تم استدعاء السفير السودانى بالقاهرة بدون إعلان أسباب وبصورة مفاجئة، ثم تصريحات السفير السودانى نفسه إلى عدد من الصحفيين فى الخرطوم بأن يستمروا فى حملاتهم الإعلامية ضد مصر، فى سابقة لم تحدث من قبل فى تاريخ علاقات البلدين، ولكنها جسدت الطريقة التى كان يُراد بها المزيد من تأزيم علاقات تاريخية ما يجب أبداً أن تواجه مثل هذا النوع من التأزيم الذى بدا بحق مصطنعاً ومبالغاً فيه، خاصة أن الأمر شمل آنذاك اتهامات بضلوع مصر فى مؤامرتين ضد أمن السودان، إحداهما انطلاقاً من الجنوب والأخرى انطلاقاً من الحدود الشرقية للسودان مع إرتيريا، وكلتاهما لم يثبت عليها أى دليل لا سيما أن مصر لا تتعامل أبداً بمثل هذه الطريقة، ولا تتدخل فى شئون الأشقاء الداخلية مهما كانت المحفزات أو المثيرات والإغراءات العابرة، وكلتاهما أيضاً عكست نوعاً من تغيير دفة الأحداث الداخلية المأزومة على خلفية الاحتجاجات الشعبية فى الخرطوم وعدد من المدن الكبرى بسبب تردى الوضع الاقتصادى وارتفاع الأسعار.
ثم توالت الأحداث، وأبرزها اللقاء بين الرئيسين السيسى والبشير فى يناير الماضى فى أديس أبابا على هامش القمة الأفريقية، الذى اتفق فيه على إنهاء التوتر والبحث فى الهموم المشتركة، عبر حوار بين مسئولين دبلوماسيين وأمنيين رفيعى المستوى لوضع الأمور فى نصابها الصحيح، ثم كان اللقاء الرباعى الذى جمع بين وزيرى الخارجية ورئيسى جهازى المخابرات فى البلدين، ونتج عنه ما يمكن وصفه بخريطة شاملة للموضوعات محل الخلاف والطموحات، والمبادئ التى يتم على أساسها معالجة الأمور، وأهمها وقف أى تدهور والبدء بخطوات ملموسة لتطوير العلاقات المتبادلة فى كافة المجالات، وتبادل الرأى حول القضايا الإقليمية، وما يمكن أن يقوم به البلدان من أجل تعزيز العلاقات المشتركة فى كافة المجالات الاقتصادية والسياسية والمجتمعية، وإيلاء قضية الأمن المشترك ثنائياً وإقليمياً اهتماماً خاصاً، بعيداً عن استدعاء قوى من خارج الإقليم ولها استراتيجيتها الخاصة، التى تتصادم مع مصالح عربية جماعية ومصالح مصرية وأيضاً سودانية.
هذه التطورات على الصعيد الثنائى لا تنفصل عن تطورات عربية فى غاية الأهمية، نشير إلى أمرين مهمين لهما صلة ولو غير مباشرة بالحالة الإقليمية فى المشرق العربى، الذى بدوره يؤثر على التفاعلات المصرية السودانية وتفاعلات السودان مع دول عربية وإقليمية أخرى؛ أولهما الحسم السعودى فيما يتعلق بالموقف الرباعى العربى، الذى يضم المملكة ومصر والإمارات والبحرين بشأن التمسك بشروط الدول الأربع الثلاثة عشر قبل أى حديث عن رفع المقاطعة عن قطر، بعبارة أخرى إن عزل قطر سيستمر إلى أن تغير سياستها بما يرضى الرباعى العربى، ويلحق بهذا الحسم أيضاً موقف سعودى صارم تجاه جماعة الإخوان المسلمين باعتبارهم جماعة إرهابية لا يمكن التغاضى عما تمثله من خطر جسيم، وهو ما أوضحه الأمير محمد بن سلمان ولى عهد المملكة عدة مرات من قبل، وآخرها حواره مع إحدى القنوات الفضائية الأمريكية بأنه سيتم القضاء نهائياً على بقايا عناصر الإخوان فى المدارس السعودية.
هذا الموقف السعودى أظهر أن أى رهان لأى دولة عربية بانتظار أى قدر من المرونة تجاه الجماعة الإرهابية هو رهان فاشل، ويمتد هذا الرهان الفاشل أيضاً إلى أى تصور بأن العلاقة مع قطر يمكنها أن تفيد صاحبها فى ظل تماسك دول المقاطعة الرباعية وقوة موقفها ضد قطر، وكلتا الدلالتين تصب فى دعم كبير للسياسة المصرية فى هذين الملفين تحديداً، كما تؤكدان أن الشراكة المصرية السعودية تزداد رسوخاً، وفى اعتقادى أن الدبلوماسية السودانية باتت تدرك هذه الدلالات كما ندركها نحن أيضاً، مع الوضع فى الاعتبار أن القمة العربية المقبلة ستعقد فى الرياض، ووفقاً للتقاليد العربية فإن الدولة التى ترأس القمة والشأن العربى لمدة عام يكون لها بصماتها الخاصة على مجمل القرارات التى تصدر عن تلك القمة.
الأمر الثانى أن كل الأحداث الإقليمية والعربية لا سيما فى ليبيا واليمن وسوريا تثبت أن سياسات القوى الإقليمية كتركيا وإيران ووراءهما قوى كبرى لا تهتم بمصالح شعوبنا العربية ولا استقرارها ولا أمنها، وأنها تعبث فى المنطقة العربية لإضعاف كل الدول العربية بدون استثناء، وأن تقارب أحدها مع أى دولة عربية ليس منزهاً عن الغرض، بل للحصول على فوائد بأشكال مختلفة والتدخل فى الأمور الداخلية العربية وإثارة الضغائن بين الدول العربية وبعضها، والنموذج التركى هنا لا يحتاج إلى مزيد من الإيضاح، فهو مثل بارز على نزعة استعمارية عفا عليها الزمن، وفى ظنى أيضاً أن الدبلوماسية السودانية تدرك ذلك جيداً، وتضعه فى الاعتبار عند أى مفصل يتعلق بالعلاقات السودانية التركية.
هذه البيئة الإقليمية المُحملة بالإشارات والحقائق المزعجة لا يمكن لأى طرف عاقل أن يتجاهلها، وثمة طريق واحد للخروج من أى مأزق يتعلق بمثل هذه القضايا المقلقة، هو طريق التعاون مع الدول ذات السياسات الشفافة، التى تراعى المصالح الكلية والميراث التاريخى وتصر دائماً على التعاون والحوار لوضع كل أمر فى حجمه الحقيقى، وإذا التزمت القاهرة والخرطوم بمثل هذه القناعات فمن المؤكد أن العائد سيكون كبيراً ومرضياً للشعبين.
نقلا عن الوطن القاهرية