بقلم - د. حسن أبوطالب
المفاجآت فى الحروب أمر متوقع، الخسائر ستظل مُحققة أو متوقعة طالما أن الأطراف المتورطة فى الحرب لم تصل إلى تسوية تحقق لكل منهم بعضاً من أهدافه. المؤكد أن نقطة التوازن فى الحرب السورية لم تحدث بعد. كل طرف يتصور أنه سيحقق ما يريد ولو بعد حين. التعثر الشديد فى مفاوضات جنيف برعاية الأمم المتحدة وبإدارة مبعوثها دى ميستورا يجسد تلك المعضلة خير تجسيد. إسقاط هيئة «تحرير الشام»، برئاسة محمد الجولانى، طائرة روسية من نوع سوخوى 25 فى ريف إدلب ومقتل قائدها، السبت الماضى، يتجاوز بكثير مسألة الكبرياء الروسى. الأمر يتعلق بإهانة روسيا وإسقاط مشروعها للحل السياسى، وبالتالى إدامة الحرب والدمار وإسقاط الدولة السورية فى أيدى جماعات مسلحة وأخرى إرهابية بامتياز، أو على الأقل تقسيم سوريا إلى كانتونات يخضع بعضها لنفوذ المسلحين السلفيين والإخوان و«القاعدة». هيئة «تحرير الشام» التى أسقطت الطائرة الروسية، وبالرغم من أنها تابعة لـ«القاعدة» بشكل أو بآخر، وتُصنف جماعة إرهابية دولياً، إلا أنها تحصل على دعم سياسى ودعائى وعسكرى من دول تتعامل مع روسيا كشريك فى الحرب ضد الإرهاب. مثل تلك الحالة ليست مجرد خداع بصرى، أو نفاق سياسى عابر، بل هى جزء من تخطيط إقليمى ودولى لإفشال الدور الروسى فى سوريا.
الصاروخ الذى أسقط الطائرة الروسية من طراز «مان باد»، نوع حرارى متطور محمول على الكتف، بسيط الحمل والحركة، ويستطيع إصابة أهدافه بدقة عالية. هو منتج أمريكى، له بدائل من صناعات دول أخرى ولم يُعرف عن تلك الدول أنها زودت الجماعات المسلحة فى سوريا بأسلحة من أى نوع. الاحتمال الأكبر أن الصاروخ الذى أسقط الطائرة الروسية أمريكى الصنع، وصل إما مباشرة أو من خلال وسيط كجماعة متعاونة مباشرة مع الولايات المتحدة، أو من خلال دولة تحصل على هذا السلاح من الولايات المتحدة وتولت توصيله إلى هيئة «تحرير الشام». إذا كان لدى جماعة «تحرير الشام» مخزون من تلك الصواريخ، فنحن أمام عملية إفشال متعمدة للدور الروسى فى سوريا. الذن يسعون وراء هذا الفشل كثيرون أبرزهم المسلحون والمرتزقة ودول إقليمية تدّعى الشراكة مع موسكو، وبالقطع واشنطن واحدة من هؤلاء.
موقف روسيا الأولى فى صورة قصف مركّز على مواقع لهيئة «تحرير الشام» الإرهابية يدخل فى باب الانتقام الفورى، ولكنه لا يكفى لاسترداد أو ترميم الكبرياء الذى سقط فى ريف إدلب. المسار الثانى تكثيف العمل الاستخباراتى فى المنطقة، يعنى أن هناك فجوة معلومات لدى روسيا مطلوب معالجتها. البحث عن الفاعل ومن أوصل الصاروخ إلى جماعة إرهابية سيظل هدفاً روسياً مشروعاً. النفى الأمريكى بعدم تسليح أى جهة بهذه النوعية من الصواريخ لا يعنى الحقيقة بعينها. والتشكيك فى النفى هو جزء من الحصافة المطلوبة فى مثل هذه الأوقات الضبابية.
روسيا فى مأزق، أو تحديداً فى بداية مأزق نُسجت خيوطه الأولى فى الإفشال المتعمد لمؤتمر سوتشى للحوار الوطنى السورى الذى عوّل عليه الرئيس بوتين للإسراع بالتوصل إلى خطة تسوية سلمية يقبلها المشاركون ويلتزمون بها.
روسيا كما هو معروف، ومنذ دخولها الورطة السورية عسكرياً فى 30 سبتمبر 2015، تعرضت لخسائر بشرية عديدة وفى المعدات والطائرات، ولكنها اعتبرت ذلك أهون بكثير من أن يتمكن تنظيم الدولة الإسلامية والفصائل المسلحة والمرتزقة من كل حدب وصوب من إسقاط الدولة السورية، فبعدها سيأتى الدور على الداخل الروسى، فالأفضل إذاً أن تُحسم المعركة فى سوريا لصالح الدولة وليس الفصائل والمرتزقة.
نهاية العمليات العسكرية، كما أعلنها الرئيس بوتين فى 5 ديسمبر الماضى، لم تكن نهاية المطاف، بل هى بداية لمرحلة جديدة سيتم فيها التركيز على تسوية سياسية تقبلها كل الأطراف وتعمل على تحقيقها. حينذاك سيكون خيار الحرب قد حُسم. ما حدث أن روسيا راهنت على مؤتمر سوتشى للحوار بين مختلف الفئات السورية، كما راهنت على تحالفها الثلاثى مع كل من إيران وتركيا لإنجاح المؤتمر ومن ثم تأكيد انتصارها العسكرى ضد الإرهاب متمثلاً فى «داعش» وبعض توابعه. مشكلات «سوتشى» كانت عديدة ومتنوعة، أبرزها كيف سيجتمع ممثلو النظام وممثلو المعارضة وممثلون عن الأكراد فى آن واحد، وكل منهم وراءه قوة دولية وإقليمية تنظر إلى الجهد الروسى باعتباره خصماً من نفوذها الذى تعمل على ترسيخه عبر عملاء وامتدادات بعينها لها حضور على الأرض السورية. ناهيك عن التضارب الحادث بالفعل بين جهود موسكو وجهود الأمم المتحدة.
فى ظل هذه البيئة المليئة بالتناقضات والخداع المتبادل المكشوف والخفى، أصرّت موسكو على تنظيم المؤتمر ظناً بأن ذلك سوف يتبعه اتفاق سيحترمه السوريون برعاية ثلاثية روسية تركية إيرانية، ومن ثم سيدفع مفاوضات جنيف خطوات إلى الأمام. هذا الظن لم يكن محسوباً بما يناسب عناصر البيئة الإقليمية ومتغيراتها سواء فى داخل سوريا أو ما حولها. جاءت الضربات حتى قبل أن يُعقد المؤتمر. عملية الغزو التركى لـ«عفرين» ومساعى أنقرة تثبيت حضور الجيش الحر المكون من مسلحين سلفيين من جنسيات مختلفة فى «عفرين» على حساب وحدات حماية الشعب الكردية فى منطقة كردية بالأساس، أثبتت أن لتركيا حساباتها الخاصة رغم محاولاتها مع موسكو إشاعة وجود تفهم وقبول روسى لهذا الغزو للأراضى السورية. وكانت النتيجة اعتذار ممثلى الأكراد عن حضور مؤتمر سوتشى.
المعارضة السورية، المعروفة باسم هيئة المعارضة السورية ومقرها الرياض، وجهت بدورها ضربة أخرى بالامتناع عن المشاركة فى المؤتمر. وهكذا أصبح المؤتمر رغم انعقاده فاقداً لقوة الدفع الذاتى، والأهم رسالة بأن الدور الروسى محدود وعليه قيود ولا يستطيع أن يتصرف منفرداً. صحيح أن روسيا دولة كبرى ووجودها راسخ فى سوريا، لكنها لا تستطيع أن تتحرك فى مسار التسوية السياسية المعقد دون تنسيق مع قوى دولية أخرى وأبرزها الولايات المتحدة، التى بدورها ليست راضية عن صعود النفوذ الروسى فى سوريا وفى عدد آخر من دول المنطقة.
لم يتمخض مؤتمر سوتشى سوى عن لجنة لوضع الدستور برئاسة المبعوث الدولى دى ميستورا، وربط التسوية بحدوث انتخابات تحدد مصير الشعب السورى، هى نتيجة بلا أى اختراقات، هى أقرب إلى الفشل أو بالأحرى هى فشل تام، تكتمل أركانه مع إسقاط الطائرة فى ريف إدلب، والأخطر أن تبدأ مرحلة استنزاف للطائرات الروسية بسلاح أمريكى، ومعها الكبرياء الروسى الحزين.
نقلا عن الوطن القاهرية