بقلم - د. حسن أبوطالب
كان المنظر لافتاً بشدة، ففى الطاولة المجاورة جلست أسرة من أربعة أفراد فى أحد المطاعم، الأم والأب والولدان، لم يتحدث أى منهم مع الآخر، الكل يحدق بتركيز شديد فى هاتفه الجوال، حين جاء النادل ليعرف طلباتهم، قيلت كلمات محدودة للغاية، عاد بعدها كل فرد إلى عالمه الخاص. وحين جاء الطعام لم يغلق أى منهم هاتفه الجوال، فقد ظل كل منهم يحمل هاتفه بيد ويأكل باليد أخرى. وبعد نحو الساعة تحرك الجميع إلى السيارة دون أن يتحدث أحدهم إلى الآخر. مفهوم التواصل الاجتماعى الواقعى لم يعد موجوداً كما كانت الأجيال الأكبر سناً تعرفه، حيث يحكى كل فرد فى «اللمة الأسرية» ما تعرض له من أحداث، ويسمع منهم تعليقاتهم وتوجيهاتهم إن لزم الأمر، وهو أيضاً يفعل الشىء نفسه مع إخوته وأصدقائه.
العالم الافتراضى بات مسيطراً. فى كثير من قاعات الدرس يجلس الطالب وهو ينظر بتمعن شديد فى شاشة هاتفه المحمول، مهما كان الأستاذ صارماً ومهما كانت تعليمات الجامعة واضحة بمنع التعامل مع الهواتف المحمولة، هناك ألاعيب ومناورات تفسد الأمر. حينها يصبح التركيز المطلوب فيما يقوله الأستاذ أقل من النصف فى غالب الأحوال.
بعيداً عن ما هو معروف بالفجوة بين الأجيال، نظراً لاختلاف الخبرات والمتغيرات التى ينشأ فيها كل جيل، فإن الفجوة الراهنة لم تعد بين الأجيال وحسب، بل باتت فجوة كبرى بين الأفراد وبعضهم البعض من الجيل ذاته، عامل السن هنا، ورغم أهميته، لم يعد مؤثراً كما كان من قبل. سطوة وهيمنة وسائل الاتصال الحديثة شكلت ظواهر مجتمعية جديدة تجاوزت كل التوجيهات التقليدية التى نشأت عليها الأجيال الأكبر سناً. تعقيدات الحياة الاقتصادية تدفع رب الأسرة إلى العمل ليل نهار، وتفرض على الأم واجبات غير معتادة، أدت بالأسر إلى أن تكون مجرد جماعة عابرة فى حياة أبنائها، لا يعرف أحدهم ما يلم بالآخرين. الاغتراب الذاتى والانطواء على النفس والاختلاء بها والاستئناس بالولوج إلى شبكة الإنترنت بات سلوكاً عادياً فى كل المجتمعات تقريباً سواء كانت متقدمة اقتصادياً أو أقل نمواً. فالشبكة لم تعد تفرق بين هذا وذاك، الكل ينغمس فى ثناياها باعتبارها الحياة المفضلة بما فيها من غرائب وحرية وخيال وتحديات ومعلومات وصور ومقاطع فيديو تتحدث عن كل شىء بجرأة تفوق الوصف.
فى إحدى شهادات قريبة للطالب الذى أقدم على الانتحار بسبب لعبة الحوت الأزرق بدا حزنها ممزوجاً بالدهشة الكبيرة معاً، فقريبها المنتحر كان شخصاً مثالياً لا يثير المشاكل مع أحد، هادئ الطبع، يمكث كثيراً مع نفسه فى غرفته يتطلع إلى جهاز الكمبيوتر، كان يشعر بالحزن نظراً لما ألم بوالده من مشكلات كبرى دفعته إلى السفر بعيداً. حسب قولها أنهم فسروا انطواءه على ذاته بالحزن على فراق الوالد. نلمح فى هذا التوصيف أن الشاب المنتحر كان له عالمه الخاص جداً لم يستطع أحد من القريبين منه أن يعلم تفاصيله. هدوؤه وانطواؤه على ذاته نُظر إليه باعتباره سلوكاً مثالياً. لم يحاول أحد أن يكتشف خفايا هذا الانطواء والجلوس أمام الحاسب الآلى لساعات طويلة، أو حتى معرفة ماذا كان يفعل وكيف كان يفكر.
فى زماننا غير البعيد جداً كانت الأسر تشكو من كثرة تحركاتنا الخارجية، ومن كثرة اللعب فى الشارع، ومن كثرة الأصدقاء، ومن كثرة الخروج لمقابلة الأصدقاء. كانت تتابع عن كثب من نعرف وما هى أحوال أسرهم وفى أى الأحياء يعيشون، وهل هم فى السن ذاتها أم أكبر قليلاً أم أصغر قليلاً. معرفة التفاصيل الصغيرة عن كل ما نفعل كانت أساساً للتنشئة والتربية والتوجيه بما يجب أولاً بأول. الوضع الآن أصبح معكوساً. لا أحد يهتم بتفاصيل تحركات أبنائه ما داموا منغمسين فى حياتهم الخاصة دون مشكلات. فقدان الوقت الذى يكون فيه رب الأسرة مع أبنائه يشكل عائقاً فى بناء علاقات اجتماعية طبيعية. المشكلة الاقتصادية تجعل كثيرين يرون أن مهمتهم تنحصر فى العمل أطول ساعات ممكنة لتوفير الأموال وجلب المطالب المعيشية. انحصار الأمر فى الأكل والملبس وبضعة جنيهات لمصروف الابن يشكل بيئة مثالية لتفكك الأسر رغم كونها تعيش فى المنزل ذاته.
الحديث الذى يسرع إليه البعض بفرض تشريعات تُحرم ألعاباً إلكترونية معينة وتفرض عقوبات على من يمارسونها، كلعبة الحوت الأزرق باعتبارها لعبة خطرة تحرض المراهقين على إيذاء أنفسهم إلى حد الانتحار، هو حديث قاصر عن فهم طبيعة المشكلة وكونها تبدلات حادة فى السلوك المجتمعى والأسرى على السواء، فى مصر وفى غيرها من مجتمعات العالم كله، بتأثير من ثورة الاتصالات التى لا يستطيع أحد أن يقف أمامها بأفكار الشجب والمنع وقرارات الزجر والعقاب. فالمنع هنا سيكون ذا طابع تقنى، وهو أمر قد يفلح جزئياً على اسم معين للعبة محددة، بينما ستظل احتمالات تغير اسم اللعبة أو شعارها أمراً وارداً بقوة، وبالتالى سيكون المنع والزجر بلا تأثير وكأنه لم يكن. ناهيك عن أن هناك آلاف اللعبات بأسماء لا حصر لها تقوم على الفكرة ذاتها، فضلاً عن أن قدرة الشبكة على إفساح مجال للحصول على اللعبة ذاتها أو شبيهاتها أياً كانت عقبات المنع التقنى المباشر مسألة عادية ولا يمكن التحكم فيها.
فى حديث ووفقاً للإعلام الروسى فإن مخترع هذه اللعبة، وهو الآن قيد السجن لثلاث سنوات، قد تواصل من خلال غرف الدردشة مع أكثر من 10 آلاف مراهق عبر العالم، عبروا خلال تلك الاتصالات عن معاناة الاغتراب عن البيئة المباشرة حولهم، عن رغبتهم فى تغيير الأحوال بعيداً عن أسرتهم أو أى من المقربين منهم. لقد شكل لهم هذا المخترع المهووس ما اعتبره فرصة كبرى للتخلص من آلامهم وأحزانهم. وهنا يكمن العالم السرى لكثير من أبنائنا، إنهم يعيشون جسدياً معنا، ولكن أنفسهم وأرواحهم تحلق بعيداً جداً عنا. العقاب هنا لا يفيد، تشكيل مجال مجتمعى إنسانى طبيعى يطلق طاقات هؤلاء الشباب، مراهقين أو أكبر قليلاً، هو الحل الوحيد. المشكلة الاقتصادية هى مسئولية الحكومة والحكم عامة، إن حلت سوف تُحل معها مشكلة الأسر المفككة والعوالم السرية المحبطة الدافعة للانتحار. أيضاً التوعية مطلوبة وتلك بحاجة إلى إعلام واعٍ وذكى، للأسف كجوهرة مفقودة فى عمق المحيط. غير ذلك مسكنات بلا تأثير.
نقلا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع