للمرة الثانية وفى أقل من عام تُظهر صور الأقمار الصناعية للسد الإثيوبى الكبير وتعليقات خبراء متخصصين فى إدارة السدود أن هناك الكثير من المشكلات البنائية فى جسم السد وفى الساتر الممتد بطول ستة كيلومترات، والمصمم كسد مساند لغرض حجز 50 مليار متر مكعب من المياه.
وقد أظهرت الصور الحديثة أن ثمة شروخاً فى البناء التراكمى الأسمنتى للسد المساعد وفقاً لتأكيد الدكتور هانى سويلم، أستاذ إدارة المياه والتنمية المستدامة بجامعة آخن الألمانية، وهى شروخ ظهرت حديثاً ولم تكن موجودة، حسب الصور، قبل حوالى تسعة أشهر، أى أنها ظهرت فى الأشهر الثلاثة أو الأربعة الماضية.
وفى تفسير ظهور تلك الشروخ، فهى إما نتيجة العوامل الجوية وسقوط الأمطار، أو نتيجة لعيوب فى عملية البناء، سواء التصميم أو المواد المستخدمة. وحسب د. سويلم فإنه يرجح العوامل الجوية، لأن التشققات حدثت قبل وصول المياه، وبالتالى فلا يمكنه أن يصل إلى تأكيد وجود مؤشرات انهيار السد أو جزء منه، معتبراً أن انهيار السد المساند مشكلة كبيرة للسودان ومصر، لكنه يستطرد بالقول فى إحدى تغريداته أنه «لا يبدو هذا بمثابة سد مستقر لحجز 50 مليار متر مكعب». وهو استطراد يعكس تشككاً مباشراً فى صمود هذا السد التراكمى إذا ما وصلت الكمية المحتجزة إلى هذا الكم الكبير من المياه، لا سيما فى حالة التقاعس الإثيوبى عن حل تلك المشكلات البنائية الخطيرة.
وسواء كانت العوامل الجوية أو غيرها هى السبب فى ظهور تلك التشققات، فالأمر يدعو إلى القلق الشديد، لا سيما فى ضوء سياسة الحكومة الإثيوبية بالصمت الشديد، وعدم توضيح أى شىء يتعلق ببناء السد وكيفية ملئه، فضلاً عن تكتمها عن أى دراسات، إن كانت تمت بالفعل، حول التأثيرات البيئية المحتملة لبناء السد.
وهى دراسات يُفترض أنها جرت وفقاً للمعايير العلمية المعتادة، ولكن لا يوجد ما يثبت إجراءها.
وفى ضوء تلك المعلومات الموثوقة المتعلقة بالشروخ والتشققات فمن الطبيعى أن تتوجه مصر والسودان إلى الحكومة الإثيوبية للاستفسار عن كيفية التعامل مع هذه العيوب الخطيرة إنشائياً.
ونظراً لأن السياسة الإثيوبية لا تعير انتباهاً إلى مثل هذه الأمور، وتتعامل بسياسة التجاهل وترفض توفير المعلومات الفنية للسد لدولتى المصب، فسيظل الأمر دافعاً لمتابعة ودراسة وفحص كل جديد، سواء عبر صور الأقمار الصناعية أو من خلال وسائل أخرى، لاتخاذ الاحتياطيات اللازمة إذا ما حدث خطر ما، كبيراً كان أم صغيراً.
قصة الشروخ فى أجزاء من المكون الأسمنتى للسد المساند سبقتها معلومات أكثر خطورة تتعلق بالسد الرئيسى نفسه، توصلت إليها دراسة امتدت لمدة خمس سنوات منذ ديسمبر 2016 إلى يوليو 2021، وشارك فيها وزير الرى والموارد المائية د. محمد عبدالعاطى ود. هشام العسكرى أستاذ الاستشعار عن بُعد وعلوم نظم الأرض بجامعة تشامبان بالولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الباحثين فى مراكز وهيئات دولية معنية بدراسات الاستشعار عن بُعد، حيث بيّنت الدراسة وجود إزاحة مختلفة الاتجاهات فى أقسام السد المختلفة تتراوح بين 10 مم و90 مم، تشير إلى حدوث هبوط غير متسق فى أطراف السد.
وإذا استمرت تلك الإزاحات، لا سيما مع الاستمرار فى حجز كميات كبيرة من المياه، فقد تتسبب فى انهيار بعض أجزاء السد أو كله، خاصة أن الأرض التى يُقام عليها السد معرّضة للزلازل ومليئة بالفوالق تحت سطح الأرض، وفى حال تسرب المياه إليها فقد تحدث تحركات فى الصفائح الأرضية ما يعرّض السد الرئيسى إلى الانهيار الفعلى.
ووفقاً للدراسة فقد تم رصد ارتفاع فى مستوى النشاط الزلزالى فى تلك المنطقة بالفعل خلال سنوات الدراسة، لا سيما فى فترات الملء التى تمت رغم كونها حجزت كميات قليلة من المياه ما بين ثلاثة إلى أربعة مليارات متر مكعب، ولا تقارن بإجمالى المياه التى تنوى الحكومة الإثيوبية حجزها وراء السد الرئيسى والمقدّر لها 18 مليار متر مكعب، ما يعنى أن خطر حدوث زلزال هو خطر فعلى إلى حد كبير مع الاستمرار فى الملء لسد مُصاب بعيوب بنائية خطيرة، بكل ما يترتب عليه من مخاطر جسيمة للسودان أولاً ولمصر ثانياً.
هذه الحقائق المتعلقة بإنشاء السد من جانب، واستمرار عملية تعلية البناء بمعدلات سريعة فوق الممر الأوسط للوصول إلى مستوى 565 متراً فوق سطح البحر، ونية الحكومة الإثيوبية إتمام الملء الثالث وحجز كميات كبيرة فى الأشهر الثلاثة المقبلة، كلها متغيرات تفرض واقعاً جديداً بشأن مياه النيل وحقوق مصر والسودان التاريخية فى مياه النيل. ومع غياب جهود التفاوض بين الدول الثلاث، يصبح من الضرورى البحث فى مسارات سياسية واستراتيجية مختلفة لحماية حقوقنا المشروعة، التى أكد الرئيسى السيسى عدم تنازلنا عن نقطة مياه واحدة من تلك الحقوق.
لقد عبّرت دول عديدة، آخرها النمسا، ومن قبل مفوضية الاتحاد الأوروبى ووزير الخارجية الأمريكية، عن تأييد المطلب المصرى فى التوصل إلى اتفاقية ملزمة بشأن ملء وإدارة السد الإثيوبى، والحفاظ على حصة مصر التاريخية دون نقصان، غير أن هذا التأييد لم يُترجم بعد إلى مواقف عملية ولم يؤدِّ إلى تغيير فى السياسة الإثيوبية، بل إن أديس أبابا وصفت بعض تلك المواقف بأنها منحازة لمصر والسودان، فى خطوة عكست استعلاء غير مبرر، واستخفافاً بحقوق دولتى المصب، ورفضاً صريحاً للدعوات الدولية المعنية بمحاصرة أسباب التوتر والصراع فى منطقة القرن الأفريقى.
وسيظل على الدبلوماسية المصرية متابعة كل كبيرة وصغيرة بشأن السد الإثيوبى، ووضع حق مصر فى ضمان حصتها التاريخية من المياه على أجندة أى حوار ثنائى أو جماعى مع أى دولة فى العالم، واستمرار الدعوة إلى التفاوض الجاد وصولاً إلى اتفاقية ملزمة تحقق مصالح الأطراف الثلاثة دون تحيز أو هروب من المسئولية، كما سيظل على الخبراء المصريين، بالتعاون مع المؤسسات الدولية المختلفة، متابعة الدراسة الميدانية عبر الأقمار الصناعية للتطورات الحادثة فى جسم السد وفى حجم المياه التى تحتجزها إثيوبيا ومدى تأثيرها على الأنشطة الزلزالية فى النطاق الجغرافى المحيط بالسد الرئيسى وزميله المساند.
فتلك المعلومات ستحدد الكثير من السيناريوهات، الأسوأ والأقل سوءاً معاً. وعلى نتائجها تؤخذ الاحتياطيات الضرورية والتصرف المناسب فى الوقت الأمثل. فالأمر لا يتعلق وحسب بكمية المياه التى يمكن أن تُنقص، وإنما بخطر تدفق كميات هائلة من المياه تطيح بكل شىء أمامها.