بقلم - د. حسن أبوطالب
الأوضاع فى سوريا تتعرض لتقلبات شديدة، ظواهر الأشياء ليست كباطنها، هناك جديد كل يوم تقريبا. الآمال التى سادت نهاية العام الماضى حول وجود فرصة أكبر للتوصل إلى تسوية سياسية فى مفاوضات جنيف مدعومة بتفاهمات يشارك فيها عدد كبير من ممثلى الفئات السورية المختلفة فى مؤتمر سوتشى المقرر عقده نهاية الشهر الجارى، تبدو بعيدة عن الواقع إلى حد كبير. نذر المواجهات العسكرية المفتوحة تخيم على الوضع السورى بقوة. عمليات الخداع السياسى التى تقوم بها الأطراف الأكثر انغماسا فى الشأن السورى أصبحت مألوفة ومكلفة استراتيجيا، سواء لأصحابها أو للسوريين أنفسهم.
آخر تحركات الخداع الكبرى وأكثرها خطورة على وحدة سوريا الإقليمية تمثلت فى القرار الامريكى بتشكيل قوة أمن حدودية قوامها 30 ألف مقاتل تتبع قوات حماية الشعب التابعة بدورها لحزب الاتحاد الديمقراطى الكردى السورى، تنتشر فى نقاط على الحدود مع تركيا شمالاً ومع العراق فى الجنوب الشرقى وعلى امتداد وادى نهر الفرات، وهو ما يُمثل عملياً الخط الفاصل ما بين المناطق الكردية المدعومة أمريكيا ومناطق انتشار الجيش السورى وحلفائه. ووفقا للمتحدث باسم الجيش الأمريكى فالهدف هو منع انتقال الإرهابيين والحيلولة دون عودة تنظيم داعش. أما هدفها الحقيقى فهو البدء فى خلق كيان كردى مستقل عن الدولة السورية. فمجرد تسمية تلك القوات بأنها حدودية يعنى صراحة أن مسئوليتها تتعلق بحدود المناطق الكردية السورية، ومن ثم يصبح احتمال الانفصال لاحقا أمرا طبيعيا. رد الفعل التركى الغاضب أدى بوزير الخارجية الأمريكية للقول إن بلاده لا تعتزم إنشاء قوات حدودية، وان الأمر أسيء فهمه. وهو تفسير لا يبدو مقنعا، أو نافيا لفكرة أن هناك مهمة يقوم بها الجيش الأمريكى بالفعل بتدريب وتسليح قوات كردية أعلن عن تخرج أول دفعة منها فى اليوم ذاته الذى نفى فيه الوزير الأمريكى الأمر. فالقوة يجرى إنشاؤها وقد تسمى باسم آخر.
ثانى التطورات الخطيرة هو دخول القوات التركية مدينة عفرين السورية بحجة تطهيرها من الإرهابيين، والامران معا يصبان مباشرة فى احتلال مزدوج أمريكى تركى لمناطق الشمال الشرقى السورى ذات الغالبية الكردية. فالأمريكيون سيبقون فى سوريا لفترة طويلة إلى أن تتحقق التسوية ويختفى الرئيس بشار حسب ما ذكره وزير الخارجية الأمريكى تيلرسون عن أهداف إدارة الرئيس ترامب الخاصة بسوريا، أما الأتراك وبعد أن يحققوا هدفهم فى الدخول إلى عمق الأراضى السورية بداية من عفرين، فليس هناك ما يمنعهم من التمسك بالبقاء فى تلك الأراضى بحجة أن وجودهم يحقق الأمن القومى التركى ويمنع انتشار الإرهاب. الموقفان على هذا النحو يعنيان إخراج مساحة واسعة من الأراضى من عباءة السيادة السورية، وبما يؤهل لخلق دويلة تكون تحت السيطرة المزدوجة للبلدين. ورغم ما يبدو أنه خلاف كبير فى الرؤية والمصالح بين واشنطن وأنقرة، فالتطورات على الأرض السورية تقول بعكس ذلك.
إنشاء كيان كردى يسُتقطع من الوحدة الاقليمية السورية يمثل خطرا استراتيجيا كبيرا على سوريا وتركيا وإيران والعراق، كما يضرب بقوة مصداقية روسيا التى نفذت عملية عسكرية كبرى منذ نهاية أكتوبر 2015 وحتى ديسمبر 2017 من أجل دحر تنظيم داعش وبقاء النظام السورى والوحدة الإقليمية لسوريا. وهنا تتبلور عدة مفارقات كبرى؛ الأولى تتعلق بالموقف الذى اتخذته كافة القوى الإقليمية والدولية بشأن الاستفتاء الذى أجرته حكومة إقليم كردستان العراق فى سبتمبر الماضى حول الاستقلال الذاتى عن الدولة العراقية، وهو موقف رفض الاستفتاء ونتائجه، والتضامن مع الحكومة العراقية فى كل خطواتها لإجهاض كل الخطوات الانفصالية للإقليم. وهو ما يبدو مختلفا كثيرا تجاه المناطق الكردية فى سوريا، ففى كل التحركات الأمريكية والتركية هناك مغزى انفصالى واضح. ومثل هذا الاختلاف فى المواقف الأمريكية والتركية تجاه الحالتين الكرديتين فى العراق وسوريا مرتبط أساسا بالصراع مع كل من روسيا وإيران ومناكفة نفوذهما المتصاعد فى سوريا، وإيجاد مواقع نفوذ مباشرة على الأرض السورية يمكن توظيفها فيما بعد لممارسة مزيد من الضغوط على الوجود الإيرانى فى كل من سوريا والعراق معا. وبذلك تدفع سوريا ثمنا باهظا من وحدتها الإقليمية وسيادتها المتناقصة فعليا.
وفى خضم الجدل العلنى بين أنقرة وواشنطن، خرج رئيس الوزراء التركى ليؤكد أن بلاده ليست بحاجة إلى الصدام مع حليف عضو فى حلف الناتو مشيرا الى الولايات المتحدة. وهنا تبدو مفارقة كبرى، فتركيا العضو المؤسس للناتو ويفترض أن الولايات المتحدة تراعى هذا الأمر فى أى سياسة تجاه قضايا أو أزمات تتعلق بالأمن التركى، وهو ما لم يحدث حتى اللحظة حسب الرؤية التركية. والسؤال المطروح بقوة هل تستطيع أنقرة أن تصمد ضد الضغوط الأمريكية الساعية بقوة الى بلورة مساحة واسعة من الأرض السورية تكون تحت الهيمنة الأمريكية المباشرة، وفى اللحظة ذاتها تقوم فيها بمناكفة روسيا حول مؤتمر سوتشى الذى تعول عليه موسكو كثيرا فى استكمال ما أعلنته من قبل حول الانتصار العسكرى على تنظيم داعش الإرهابى؟.
الشيء الجدير بالملاحظة هو أن الولايات المتحدة تبدو فى حالة مهادنة بالنسبة للتحركات العسكرية التركية المتجهة لاحتلال عفرين والتى ربما تطور تحركها إلى مدن كردية أخرى، بما يورطها أكثر فى حرب عبثية معروف مسبقا أن لا منتصر فيها مهما طال الزمن. يقابل ذلك غموض الموقف الروسى، والأمر المؤكد أن الروس إن رفضوا أن يكون للقوات الجوية التركية دور فى الهجوم على عفرين، إلا أنهم لم يرفضوا العملية العسكرية التركية، بل تركوا الباب مفتوحا لتورط عسكرى تركى جديد فى الأزمة السورية. ومن الناحية العملية فالأمر يثير الاستغراب، فروسيا تراهن الآن على تحويل ما تعتبره انتصارها العسكرى على داعش الى انتصار سياسى يتمثل فى وضع أسس لحل سياسى لمجمل الأزمة السورية وبما يحافظ أيضا على وحدة سوريا الإقليمية، ولذا تضع مصداقيتها فى مؤتمر سوتشى المقرر عقده نهاية يناير الجارى، ومع ذلك فهى لم تمنع تركيا من هذه المغامرة العسكرية قبل أيام محدودة من عقد المؤتمر، وكأن الجميع اتفقوا على استمرار معاناة السوريين، وتحويل سوريا الى كانتونات، كل منها تحميه قوة احتلال اجنبية.
نقلا عن الأهرام القاهرية