بقلم - حسن أبوطالب
للمرة الأولى تضرب إسرائيل أحد أبرز المنشآت المدنية فى سوريا وتخرجه من الخدمة لمدة غير معروفة. فقد طال القصف مدارج مطار دمشق الدولى والبنية التحتية الكهربائية ومبنى إدارياً. الأكثر من ذلك صدر اعتراف إسرائيلى صريح بالمسئولية عن القصف، ولم يخرج التبرير عن استهداف تعده «تل أبيب» مشروعاً ضد إيران وأذرعها، وضد مساعيها لإرسال مكونات عسكرية متطورة عبر سوريا إلى حزب الله اللبنانى، بهدف تطوير قدراته الصاروخية وجعلها صواريخ دقيقة التوجيه تهدد إسرائيل.
إسرائيل منذ العام 2018 قامت بتوجيه ضربات إلى الأراضى السورية تفوق ألفين ومائتى مرة، ولم تكن تعترف بأنها المعتدى. تحول سياستها مؤخراً للتصريح بضرب العمق السورى يُعد تحولاً استراتيجياً من حيث الأداء ومن حيث التباهى الإعلامى، وكلاهما موجه لإيران وحلفائها من جهة، وللداخل الإسرائيلى من جهة ثانية، وهو الآخذ فى التحول المتسارع نحو اليمين المتطرف، والمؤمن بأن حل أزمة إسرائيل يكمن فى شن الحروب واغتصاب الأراضى، باعتبارها الاستراتيجية الأمثل للحفاظ على وجود إسرائيل ذاتها.
استهداف الداخل الإيرانى جزء آخر من الصورة، حيث قُتل علماء ومهندسون يشاركون فى برنامج إيران الصاروخى والنووى، كما استهدفت منشآت نووية بطائرات مُسيرة تطلق من الداخل الإيرانى، وعمليات استخبارية وتخريب سيبرانى لبعض المرافق الحيوية، وهو ما وصفه رئيس الوزراء نفتالى بينيت بأنه تطبيق جديد لاستراتيجية مواجهة الأخطبوط، فبدلاً من ضرب أذرعه، كما كان يحدث سابقاً، جاء الجديد مستهدفاً ضرب رأسه، بهدف القضاء عليه. وهو ما فسرته إحدى المجلات الأمريكية الشهيرة بكونه أحد أهم الشواهد على قرب اندلاع حرب إقليمية تعد لها إسرائيل. وذلك بالرغم من أن إيران لم ترد على كل تلك الضربات إلا بالتصريحات حول قرب الانتقام فى الداخل الإسرائيلى وليس خارجه.
فى السياق ذاته، ترتفع بحدة التصريحات والتهديدات المتبادلة بين السيد حسن نصر، أمين حزب الله اللبنانى، ورئيس الأركان الإسرائيلى، أفيف كوخافى، على خلفية قيام إسرائيل بالبحث عن الغاز فى منطقة بحرية محل نزاع، يعتبرها حزب الله مبرراً قوياً للدفاع عن ثروات لبنان المشروعة، بينما تعتبرها إسرائيل حقاً لها ما دام لم يصل الطرفان إلى اتفاق بشأن تحديد الحدود البحرية بينهما، بينما يعمل وسيط أمريكى لحل الخلاف. ويلاحظ فى تهديدات «كوخافى» التى توعدت لبنان بضرب آلاف الأهداف المدنية والعسكرية، أنها جاءت فى سياق تعريف الإسرائيليين باستعداد جيشهم للتعامل مع ستة تهديدات فى آن واحد، أبرزها تهديدات نووية، فى إشارة إلى ضربات إيرانية محتملة ضد المنشآت النووية الإسرائيلية، وهو ما أشار إليه موقع «سايبر شافارات تريدستون 71»، الإسرائيلى المختص بتحليل البيانات الاستخبارية بأن إيران لديها سبعة أهداف استراتيجية داخل إسرائيل ستوجه إليها الصواريخ بمجرد أن تتعرض لهجوم إسرائيلى؛ منها مركز البحوث النووية فى «ديمونا» وقاعدتا الصواريخ «تيروش»، القريبة من القدس، و«عيلبون»، القريبة من مدينة الخليل، ومركز «كفار زخاريا»، وهى منشآت تُستخدم لتخزين رؤوس حربية نووية وتكتيكية وصواريخ نووية، فضلاً عن ثلاث منشآت للبحوث النووية فى وسط وشمال إسرائيل.
ما سبق يشير إلى حالة ردع متبادل تحد من فكرة الاندفاع نحو حرب مفتوحة كما توحى بذلك التصريحات الإسرائيلية، التى عادة ما تركز على أن فشل التوصل إلى اتفاق بين إيران والولايات المتحدة بشأن برنامج «طهران» النووى يعد سبباً كافياً للقيام بتحرك ذاتى ضد المنشآت النووية الإيرانية، ولكن بموافقة أمريكية ولو كانت غير معلنة. ومعروف أنه تم تخصيص مبلغ مليار و200 مليون دولار فى الميزانية الإسرائيلية للعام الجارى لحشد القدرات العسكرية والتدريب المناسب للقيام بعمل عسكرى ضد إيران.
لكن الأمور العملية ليست بهذه البساطة. وبدون موافقة أمريكية صريحة لن تستطيع إسرائيل أن تقوم بأى عمل عسكرى منفرد ضد إيران. الأكثر من ذلك فمثل هذا العمل المُعقد فنياً وتنفيذياً يتطلب مشاركة أمريكية صريحة، وهو ما تتردد فيه «واشنطن»، لأنه سيثير الكثير من الاحتمالات التى يصعب السيطرة عليها، وكلها احتمالات تفترض ردود فعل إيرانية انتقامية من الحرس الثورى ومن قبَل حلفائها المنتشرين فى بلدان مختلفة فى المنطقة، قد تدفع الإقليم كله إلى حرب مدمرة بكل المعانى. كما أن الوجود العسكرى الأمريكى نفسه المنتشر فى سوريا والعراق وفى الخليج سيكون عرضة لأعمال انتقامية إيرانية ومن أذرعها فى تلك البلدان وفى غيرها، وهو ما يتضارب مع مبدأ يحرص عليه الرئيس جو بايدن بعدم تعريض حياة الجنود الأمريكيين للخطر.
وفى الداخل الأمريكى تجرى محاولة إصدار تشريع من الكونجرس، يشارك فى صياغته نواب جمهوريون وديمقراطيون بهدف إجبار البنتاجون الأمريكى على إعداد خطة لمواجهة مصادر التهديد الإيرانىة من الصواريخ والطائرات الدرون، خلال ستة أشهر، بحيث تشمل إعداد منظومة دفاع صاروخى ذات نطاق إقليمى خليجى تشارك فيه إسرائيل ودول عربية أخرى كالأردن والعراق. وهنا نلاحظ أن تشريعاً كهذا وصفه البعض بأنه يؤسس لناتو عربى بقيادة أمريكية، أنه يعبر عن قصر نظر استراتيجى خطير.
فمن جهة يتصور المشرعون الأمريكيون أنهم يسيطرون على حركة دول المنطقة، وهو تصور غير موجود سوى فى أذهانهم وحسب، ومن جهة ثانية فإن الدول الواردة فى هذا المشروع لديها بالفعل قدرات ذاتية لحماية نفسها وفقاً لآليات تراعى عدم الزج بالمنطقة إلى حروب لا نهاية لها، كما أن كل الدول العربية الُمشار إليها وحتى التى لديها مشكلات مع إيران، فليست لديها الحماسة إلى الحرب وفقاً للتصورات الأمريكية / الإسرائيلية. وبعض هذه الدول لديها بالفعل علاقات قوية مع إيران، والعراق نموذج واضح رغم الخلافات حول عدد من القضايا الثنائية، وهو البلد الحريص ألا يكون ساحة لتصفية الصراعات بين قوى خارجية على أرضه وموارده. ويجب ألا ننسى أن هناك منظمات عراقية أبرزها «الحشد الشعبى»، ذات صلات وثيقة بإيران، وقادرة على التحرك ضد الوجود العسكرى الأمريكى فى العراق، إذا ما جرت الأمور على هذا النهج المتهور، كما أن هناك أطرافاً أخرى لديها القدرة على الحركة المضادة ضد إسرائيل ونواياها.
وفى المجمل فإن مشروع القانون يستهدف دفع العرب إلى حرب إقليمية للدفاع عن إسرائيل ودفع تكلفتها دون أن تتحمل أمريكا شيئاً. وهو أمر تدركه تماماً جميع القيادات العربية المعنية، وقطعاً لن تشارك فى تطبيقه. فليس كل ما تروج له المصادر الأمريكية قابل للتطبيق، لا سيما إن افتقد للمنطق السليم.