كلما اقترب الأوروبيون وأمريكا وإيران من التوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووى الإيرانى، أقر ساسة إسرائيل أنه اتفاق أكثر سوءاً من سابقه الموقع فى 2015، الذى تخلى عنه الرئيس ترامب فى العام 2018 بناء على نصائح وضغوط نتنياهو رئيس الوزراء السابق، الذى ما زال يسعى بدأب شديد للعودة مرة أخرى إلى مقعد رئيس الوزراء. والآن يبدو التقييم السائد لدى الاستخبارات الإسرائيلية أن الانسحاب الأمريكى من الاتفاق كان خطأ جسيماً، وظَّفته إيران للتحلل من قيود التخصيب وكميات اليورانيوم المخصب المسموح بها، ما سمح لها أن تقترب كثيراً من امتلاك قنبلة نووية. وبدلاً من خنق إيران اقتصادياً ونووياً، أصبحت الآن أكثر قدرة على تهديد إسرائيل.
وكثيراً ما صرّح رئيس الوزراء الحالى «لابيد» بأن على الولايات المتحدة أن تترك طاولة المفاوضات وتفكر فى أسلوب أكثر ردعاً لإيران، فى إشارة إلى عمل عسكرى يدمر القدرات النووية الإيرانية، وهو اختيار لا ترغب فيه واشنطن الآن، حيث تركز على مواجهة روسيا والصين فى آسيا، وتسعى إلى خفض التزاماتها فى الشرق الأوسط، فضلاً عن أن أى اتفاق مع إيران سيتيح لها تصدير النفط، ما يسمح بتعويض معقول لغياب النفط الروسى عن الأسواق العالمية بسبب العقوبات الأمريكية والأوروبية. وهو ما يصب بدرجة ما فى صالح الولايات المتحدة والرئيس بايدن شخصياً الذى يصر على عزل الاقتصاد الروسى عن العالم ككل، ويسعى إلى خفض أسعار النفط من خلال إقناع المنتجين بزيادة الإنتاج.
صيغة الاتفاق المنتظر، وبالرغم من عدم الكشف عن كافة تفاصيله، من شأنها أن ترفع العقوبات عن إيران بصورة تدريجية ومن ثم تحصل على مبالغ هائلة نتيجة رفع التجميد عن أصولها فى الولايات المتحدة وغيرها من دول أوروبا، ونتيجة أيضاً لتعاملاتها التجارية، سواء البترولية أو غيرها، التى ستصبح متاحة للعالم كله بعيداً عن أى عقوبات.
لكن من غير الواضح بعدُ هل ستعود إيران إلى الالتزام بنسبة تخصيب اليورانيوم الموجودة فى صيغة اتفاق 2015 التى كانت محددة بنسبة تقل عن 3 فى المائة، فى حين أنها الآن وصلت إلى 60 فى المائة وربما أكثر، كما أن لديها الآن 3600 كيلوجرام من اليورانيوم المخصب، فى حين حدد اتفاق 2015 الكمية المسموح لإيران بالاحتفاظ بها فى حدود 30 كيلوجراماً وحسب.
عدم وضوح الاتفاق الجديد المرتقب بشأن هاتين القضيتين، نسبة التخصيب المرتفعة والكمية الكبيرة من اليورانيوم المخصب التى تمتلكها إيران بالفعل، يمثل بيت القصيد بالنسبة لإسرائيل، فكلا الأمرين وفقاً للرؤية الإسرائيلية يقرّبان إيران فعلياً من صنع رأس نووى صالح للاستخدام عسكرياً، وإن حدث الأمر فسيعنى إلغاء احتكار إسرائيل للقدرات النووية العسكرية فى الشرق الأوسط. وهنا تتباين المواقف الإسرائيلية بشأن الاتفاق المرتقب حال قبوله أمريكياً.
فهناك من يرى أن إيران بالفعل قد تمكنت من المعرفة النووية الكاملة، وبالتالى فوجود اتفاق أو غيابه لا يعنى شيئاً جوهرياً، وأن على إسرائيل أن تفكر فى البدائل التى تحمى وجودها لا سيما عمل عسكرى شامل لا تتمكن من أدواته فى اللحظة الجارية، وبالتالى فمن الأفضل أن تتعايش إسرائيل مع حقيقة أن هناك دولة نووية أخرى فى الإقليم، ووفقاً للقناة 12 الإسرائيلية، فليس هناك «خيار عسكرى فعال ضد النووى الإيرانى، ومن الضرورى أن تبدأ إسرائيل التفكير فى العيش فى ظل إيران نووية».
وفى المقابل هناك من يرى أن وجود اتفاق حتى ولو كان معيباً ومتجاوزاً للخطوط الحمراء الإسرائيلية، سيؤدى عملياً إلى خفض السرعة الإيرانية التى تقربها من صنع رأس نووى حربى، نظراً لعودة عمليات المراقبة الدولية التى ستقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وفى الآن ذاته يوفر لإسرائيل مساحة من الوقت تمكّنها من تطبيق خطتها العسكرية الهجومية على المنشآت الإيرانية النووية.
الاتجاه الثالث، ويبدو أنه السائد فى منظومة الحكم والأمن الإسرائيلية، يعتبر أن إسرائيل غير معنية بالاتفاق أياً كان، وأنها ستضع أولاً وأخيراً مصلحتها الذاتية وستعمل على هديها بغضّ النظر عن الموقف الأمريكى، كما عبّر عن ذلك رئيس الوزراء الحالى لابيد، ولكن بدون أن تصل الأمور مع واشنطن إلى حد الخلاف الشديد والعلنى، كما حدث إبان رئاسة نتنياهو للوزراء مع الرئيس الأسبق أوباما، إذ من الأفضل أن تستمر العلاقة مع واشنطن بصورة جيدة أياً كان من يحكم البيت الأبيض، مع استمرار محاولات إقناعها بأن بقاء ووجود إسرائيل يكمن فى إنهاء البرنامج النووى الإيرانى تماماً، كما أن مصلحة أمريكا والعالم السيطرة على التحركات الإيرانية المثيرة للصراع فى المنطقة.
فى المقابل، ثمة من يرجّح انزلاق العلاقة مع واشنطن إلى خلاف علنى شديد، كما أشار إلى ذلك معلّق الشئون العسكرية فى موقع «والاه» الإسرائيلى، معتبراً أنّ «إسرائيل لن تجلس بهدوء على خلفية التطورات فى المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة بشأن المشروع النووى»، وأن التقدير هو «أن صراعاً بشأن الاتفاق النووى بين الولايات المتحدة وإسرائيل سيبدأ قريباً. وحتى لو كان هناك مسعى لإبقائه خلف الكواليس، فإنّه سينزلق إلى الخارج».
ويلعب عنصر الزمن هنا دوراً مهماً، فهل سيكون هذا الصراع العلنى قبل توقيع الاتفاق أم بعده، وإلى أى مدى يمكن لإسرائيل أن تنازع البيت الأبيض فى الوقت الذى تحتاج فيه إلى موافقته على طلبيات الأسلحة النوعية المقدّر أن تكون أداتها العسكرية لضرب المنشآت النووية الإيرانية.
مجمل القول أن القرار الإسرائيلى الاستراتيجى بمنع إيران من الحصول على القنبلة النووية له أكثر من دلالة، أولاها أنه يعكس قلق منظومة الحكم الإسرائيلى من اقتراب إيران من المعرفة الكاملة لصنع رأس نووى حربى، ما يؤدى إلى تغيير كامل فى أسس التوازن القائم حالياً بين إسرائيل وكل الدول المناهضة لها فى الإقليم. وثانيتها أن امتلاك إيران قدرات نووية عسكرية يعنى عملياً إلغاء حالة احتكار إسرائيل للأسلحة النووية فى الشرق الأوسط كله، وهو الاحتكار الذى تعده تل أبيب مصدر قوة إسرائيل والضامن لبقائها ووجودها، والرادع الحاسم لأعدائها.
ومن ثم فإن إلغاء هذا الاحتكار يعنى فقدان إسرائيل حالة التفوق المطلق على مجمل بلدان الشرق الأوسط من جانب، كما قد يحفز دولاً أخرى على امتلاك معرفة نووية لغير الأغراض السلمية. وفى كل الأحوال تواجه إسرائيل ورطة كبرى.