بقلم: حسن أبوطالب
بعد ساعات قليلة من إعلان مارك إسبر، وزير الدفاع الأمريكى الجديد، نية بلاده نشر صواريخ نووية متوسطة المدى فى أراضى دول حليفة فى آسيا، معتبراً الأمر إجراءات احترازية لتطوير قدرات المنطقتين الآسيوية والأوروبية، جاء إعلان وزيرة الدفاع الأسترالية بأن بلادها لا توافق على نشر أى صواريخ أمريكية على أراضيها، وبعدها أكد رئيس وزراء أستراليا رفض بلاده مجرد الحديث فى هذا الأمر. التأكيدات الأسترالية على هذا النحو ليست بعيدة عن التحولات الأمريكية بشأن إعادة النظر فى استراتيجيتها النووية ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنظر إلى الصين باعتبارها عدواً حضارياً مختلفاً، ويمثل خطراً كبيراً على أمريكا ذاتها.
وللتوضيح فقد بررت واشنطن موقفها من إلغاء اتفاقية الأسلحة النووية قصيرة المدى الأقل من 500 كم، بانتهاك روسيا للاتفاقية من خلال تطوير سلسلة من الصواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية يصل مداها إلى أكثر من 500 كم، وبما يهدد أوروبا، وثانياً لأن الصين خارج نطاق هذه الاتفاقيات الملغاة، ولديها أيضاً أكثر من ألف صاروخ تتجاوز هذا المدى بكثير، وبعضها يستطيع أن يحمل عشرة رؤوس نووية ويصل إلى الأراضى الأمريكية، ولذا فالولايات المتحدة ليس أمامها سوى التخلص من أى قيود تحول دون إنتاج أنظمة صاروخية نووية جديدة لمواجهة هذين التحديين الكبيرين.
وأشير هنا إلى أحد المقالات المهمة التى نشرت فى «الفاينانشيال تايمز» 8 يونيو الماضى للكاتب مارتن وولف، بعنوان «صراع الـ100 عام الصينى الأمريكى يلوح فى الأفق»، وفى المقال تحليل رصين لما وصفه الكاتب بأن التنافس الشامل مع الصين أصبح مبدأ تنظيمياً للسياسات الاقتصادية والخارجية والأمنية الأمريكية، وأن الهدف هو هيمنة الولايات المتحدة على العالم والوسيلة هى السيطرة على الصين أو الانفصال عن الصين، ومشيراً إلى أن فكرة تأطير العلاقات مع الصين باعتبارها صراعاً ينتهى بخسارة أحد الطرفين بدأت تظهر بقوة فى التحركات الأمريكية، وهو ما تعده كيرون سكينر، مديرة تخطيط السياسات فى وزارة الخارجية الأمريكية، فى إفادة لها أمام منتدى نظمته «نيو أمريكا» بمثابة «معركة كبرى مع حضارة مختلفة تماماً وأيديولوجية مختلفة، والولايات المتحدة لم تكن قد خاضت مثل ذلك من قبل، وهى المرة الأولى التى سيكون لدى أمريكا منافس ذو قوة عظمى ليس قوقازياً»، وهو تأطير يعنى أن الصراع مع الصين لا حل له إلا بهزيمتها.
من المفارقات المثيرة للتعجب هنا أن الولايات المتحدة التى تملك 6780 رأساً نووياً، بنسبة 44% من إجمالى الرؤوس النووية التى تحوز عليها القوى النووية، تخشى من قوة الصين النووية التى لا تملك سوى 290 رأساً نووياً فقط، وبنسبة 2% حسب إحصاءات العام 2019، بينما روسيا تملك 7000 رأس نووى، أى نصف ما يملكه العالم من الرؤوس النووية، وتملك القوى النووية الأخرى سواء المعترف بها قانوناً أو غير ذلك 4% فقط من إجمالى الرؤوس النووية، يضاف إلى ذلك أن الصين نفسها تعترف، كما ورد فى «الورقة البيضاء» الصادرة عن الخارجية الصينية للعام 2019، بأن قوتها النووية ضعيفة، وأنها لا تمثل عنصراً أساسياً فى رؤية الصينيين أنفسهم لدورهم فى العالم، وهى مصممة لأغراض دفاعية وحسب وعند الضرورة، وتحديداً لغرض الضربة الثانية رداً على أى هجوم، وأنها غير قابلة للاستخدام فى الحروب التقليدية، لأن جيش الشعب الصينى ببساطة لا يملك رؤوساً نووية تكتيكية يمكن استخدامها على نطاق جغرافى محدود، فضلاً عن كون الصين غير خبيرة بالحروب النووية، ومجمل الورقة يؤكد أن الصين لا تمثل تهديداً نووياً لأحد، لا سيما فى محيطها الجغرافى المباشر.
ضعف القوة النووية الصينية بات يمثل هاجساً لدى المخططين الصينيين، لا سيما فى ضوء ما يرونه تحولاً نوعياً أمريكياً فى التعامل مع صعودهم السلمى، استناداً على التطور الاقتصادى والتكنولوجى الخاص بهم، ولذا لم يعد غريباً أن تنشر بعض الصحف الصينية مثل «جلوبال تايمز» مقالات لخبراء يدعون فيها إلى تقوية مواقف بلادهم النووية، وأن تطوير منظومات الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية بات حتمياً، لا سيما قصيرة المدى، وتوسيع قواعد إطلاقها برياً وبحرياً، ومن يتابع التحركات الصينية فى بحر الصين الجنوبى يدرك أن الجزر الصناعية التى أقامتها الصين فى حدود منطقتها الاقتصادية، لها وظائف عسكرية بالأساس، وكثير منها عبارة عن قواعد بحرية لضبط حركة الملاحة فى المنطقة وفقاً لشروط صينية، وهو ما يثير قلق العديد من الدول، مثل فيتنام التى تمنع البحرية الصينية سفنها من الصيد أو التعدين، وبناء عليه ترحب بالأفكار الأمريكية الداعية إلى تشكيل تحالف إقليمى يقيد التصرفات الصينية.
وفى ضوء ما أعلنه وزير الدفاع الأمريكى يبدو أن فكرة تشكيل تحالف من الحلفاء له صبغة عسكرية باتت سياسة رئيسية لواشنطن، بحيث تسمح تلك الدول الحليفة، كاليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام وأستراليا والفلبين وبروناى وماليزيا، بنشر منظومات صواريخ أمريكية قادرة على حمل رؤوس نووية لمواجهة ما تصفه واشنطن بالتهديدات الصينية لقواعد الملاحة القانونية الدولية، وهو ما يتكامل مع ما جاء فى مراجعة الاستراتيجية الأمريكية للعام 2017، لا سيما الحديث عن إمكانية استخدام أسلحة نووية تكتيكية فى أى حروب تقليدية قد تضطر إليها الولايات المتحدة. وبعدها تحدثت دراسات أمريكية عن احتمال نقل الحرب إلى الأراضى الصينية، كدرجة أكبر من الردع للصين، وهو ما ردت عليه بكين بأن لديها صواريخ تستطيع أن تضرب كل القواعد وكل القطع البحرية الأمريكية فى المنطقة، كما تستطيع الوصول إلى الأراضى الأمريكية إن وقع عليها عدوان. فى الآن ذاته أكدت أنها لن تكون بادئة بأى حروب تقليدية أو نووية، فى حين أشارت الصحف الصينية إلى قدرة الصاروخ الصينى الباليستى المطلق من الغواصة من طراز «جولانج 2»، وصاروخ دونج فنج- 41 العابر للقارات والقادر على حمل عشرة رؤوس نووية على الوصول إلى أبعد مكان ممكن.
واقع الحال أن هذا الحوار المشفوع بوثائق لسياسات واستراتيجيات يجرى تطبيقها واقعياً، على الأقل فى خطواتها الأولى، ينذر بأن الأمور لم تعد مرهونة بسباق تسلح نووى بين أكبر ثلاث قوى فى العالم المعاصر، بل أيضاً قد ينزلق إلى مواجهة فعلية، تستخدم فيها أولاً أسلحة نووية تبدأ تكتيكية، وقد تتطور كرد فعل دفاعى أو انتقامى إلى استخدام الرؤوس الاستراتيجية الأكثر تدميراً بمراحل، ما يجعل حرب المائة عام على وشك الحدوث.