بقلم : د. حسن أبوطالب
قبل يومين بدأت فعاليات مؤتمر باليرمو فى جزيرة صقلية الإيطالية بهدف الخروج من حالة الانسداد السياسى والأمنى التى وصلت إليها ليبيا، وبدت فى تأجيل الانتخابات البرلمانية والرئاسية إلى موعد آخر. ومؤتمر باليرمو يُعد بشكل أو بآخر جهداً إيطالياً مدعوماً أمريكياً للتأكيد على أن مستقبل ليبيا مرهون بتسوية سياسية يشارك فيها كل الأطراف ودون إقصاء لأحد، ومثل هذا الشعار لا يختلف عليه اثنان، وسبق طرحه فى مؤتمر باريس الذى عُقد فى مايو الماضى برعاية مباشرة من الرئيس الفرنسى ماكرون، والذى انتهى آنذاك بالاتفاق على إجراء الانتخابات البرلمانية الرئاسية فى ديسمبر المقبل، غير أن الأطراف الليبية لم تحترم هذا الاتفاق ولم تلتزم الإجراءات الدستورية والقانونية المطلوبة أولاً لعقد الانتخابات، كإصدار قانون للعملية الانتخابية وتعديل بعض مواد الدستور المؤقت، وتسهيل عمل المفوضية الخاصة بالانتخابات من توفير الموارد اللازمة لها، فضلاً عن حمايتها أمنياً.
الخلافات حول تشكيل جديد للمجلس الرئاسى كان أيضاً أحد المتغيرات المهمة التى ساهمت فى عدم انعقاد الانتخابات فى الوقت الذى اتفق عليه مسبقاً. وهناك الآن موقف واضح عبر عنه غسان سلامة، المبعوث الدولى لليبيا، أمام مجلس الأمن يوم الخميس الماضى، حيث وضع خطة من عدة عناصر، أبرزها عقد مؤتمر وطنى جامع يشارك فيه كل الليبيين فى ربيع العام المقبل، وضبط الحالة الأمنية من خلال دعم لجنة الترتيبات الأمنية الجديدة لطرابلس الكبرى التى صاغت خطة أمنية شاملة للعاصمة تتضمن تسلّم الأسلحة من الميليشيات وتسوية أوضاع المنتسبين إليها، على أن يمتد عملها إلى باقى المناطق الليبية. وعقد الانتخابات بناء على مخرجات المؤتمر الوطنى فى سبتمبر 2019، وهو ما يعنى أن حكومة الوفاق الوطنى التى يرأسها السراج ستظل تحظى بشرعية الأمم المتحدة حتى ذلك الحين، وبالتالى ستظل معضلة توحيد كل الفصائل العسكرية التابعة للجيش الوطنى الليبى بقيادة خليفة حفتر وتلك التابعة لحكومة الوفاق الوطنى ضاغطة بقوة على أى حل سياسى توافقى يمكن التوصل إليه.
هنا يلاحظ المرء نوعاً من التضارب بين دوافع مؤتمر باليرمو وبين خطة المبعوث الدولى غسان سلامة، على الأقل من زاوية ما الجديد الذى يمكن أن يضيفه المؤتمر لمساعى التسوية السياسية للوضع الليبى الراهن؟ ومعروف أن تعدد المبادرات الدولية سواء ابتعدت عن الخطة الأممية أو اقتربت منها كلياً أو جزئياً يؤدى إلى تعثر العمل على الأرض. فحين دعت باريس إلى مؤتمر يشارك فيه الأطراف الفاعلة فى ليبيا وانتهى إلى تحديد موعد للانتخابات كان ذلك بعيداً عن الجهد الذى تقوم به البعثة الدولية، ومع ذلك التزمت البعثة الدولية بهذا الاتفاق وسعت إلى تطبيقه، ولكنها لم تنجح نظراً للخلافات الكبيرة بين القوى الليبية رغم إعلانها الالتزام بما اتفق عليه فى باريس. وهنا يثور التساؤل الأهم وهو هل سيكون مؤتمر باليرمو الذى حشدت إليه إيطاليا مختلفاً من حيث نتائجه ومن حيث التزام الأطراف الليبية بما يتوصلون إليه؟
قبل الإجابة يجب الإشارة إلى أن هناك تنافساً إيطالياً فرنسياً حول ليبيا، ولكل دوافعه، فبالنسبة لفرنسا برئاسة ساركوزى فقد كانت اللاعب الأساسى فى إقناع مجلس الأمن فى مارس 2011 بالقيام بعمل عسكرى ضد «القذافى» تحت شعار حماية المدنيين، ولعبت البحرية الفرنسية دوراً مهماً فى الحملة العسكرية على قوات «القذافى». وبالقطع لم تكن حماية المدنيين هى الأهم بالنسبة لفرنسا، بل توسيع النفوذ وبناء مصالح أكبر فى ليبيا، وهو ما يعنى خصماً من المصالح الإيطالية التى تنظر لليبيا نظرة خاصة نتيجة القرب الجغرافى والمصالح التاريخية التى تمتد إلى حقبة الاستعمار الإيطالى والتى استمرت أيضاً بعد استقلال ليبيا فى 1951. وامتداداً لهذا التنافس الخفى يأتى مؤتمر باليرمو ليسعى من خلاله الإيطاليون للتأكيد على أن نفوذهم السياسى والمعنوى ما زال قائماً ولم يتأثر بعد بالمساعى الفرنسية، وأن لهم الدور الأكبر أوروبياً فى تحديد مستقبل ليبيا الجديدة.
وبالنسبة للمؤتمر نفسه ونتائجه المحتملة فستظل حبراً على ورق مهما كانت منطقية ومهما أكد الفرقاء الليبيون على التزامهم بها. الاختلاف الحقيقى مرهون بخمسة عناصر رئيسية؛ أولها أن يتوافق الليبيون على الالتزام بخطة المبعوث الدولى وليس أى خطة أخرى الخاصة بالمؤتمر الوطنى الجامع وما يترتب عليه من استحقاقات يتوافق عليها ممثلو الشعب الليبى، والثانى أن تُصاغ خطة أمنية شاملة أبرز معالمها برنامج زمنى لتوحيد الجيش الوطنى الليبى تحت قيادة واحدة تلتزم بالدستور، يصاحبها خطة لتفكيك الميليشيات المسلحة أياً كانت وإدماج بعضها كأفراد إذا توافرت الشروط المهنية والاحترافية فى الجيش الوطنى الموحد أو الأجهزة الأمنية الخاضعة لسلطة الحكومة، وثالثاً الالتزام بمواعيد محددة لإنجاز المتطلبات الدستورية والقانونية لإجراء الانتخابات فيما لا يزيد عن سبتمبر 2019، ورابعاً الالتزام بخطة الأمم المتحدة لضبط أداء البنك المركزى الليبى واخضاعه للضوابط المعمول بها مع ضبط عائدات النفط وبما يسد الثغرات التى تؤدى إلى صرف أموال من تلك العائدات لمنظمات وأشخاص غير مسئولين، وخامساً خطة تنمية اقتصادية تطبقها الحكومة لتحسين أوضاع الطبقة الوسطى الليبية.
هذه العناصر الخمسة لا يغنى أحدها عن الآخر، فهى كل متكامل ومترابط. وهى بالنسبة لبعض الأطراف كالجيش، سواء فى الشرق بقيادة حفتر أو الخاضع لسلطة حكومة الوفاق الوطنى فى طرابلس، أو بالنسبة للمجلس الرئاسى برئاسة خالد المشرى الذى يُطالب كثيرون بإعادة هيكلته ليكون أكثر تمثيلاً للقوى الليبية المختلفة، أو بالنسبة للبرلمان فى طبرق برئاسة المستشار عقيلة صالح، تعد التزامات قاسية ويتطلب تنفيذها تنازلات هائلة، وإذا ما نجح مؤتمر باليرمو فى تحديد هذه التنازلات المتبادلة وفق برنامج زمنى يوقع عليه الجميع، ويكون الطرف غير الملتزم لاحقاً محلاً لعقوبات دولية صارمة، فسيكون قد وضع لبنة حقيقية وصلبة للخروج من المأزق الليبى الحالى. ولعل الأفضل فى هذه الحالة أن يعتمد مجلس الأمن تلك الخطة المفصلة ويربطها بالعقوبات على الأطراف الرافضة أو المتقاعسة لاحقاً.
بعبارة أخرى إننا أمام جهد إيطالى ندرك دوافعه الذاتية، ولكنه لا يختلف عن جهود دولية سابقة، وهو أمام مسارين؛ إما يُعد خطوة مهمة إلى الأمام إذا طبق العناصر الخمسة المشار إليها آنفاً، أو يكون عملية دعاية وعلاقات عامة سواء لإيطاليا أو للفرقاء الليبيين، وفى الحالة الثانية تحديداً فإن جهود البعثة الدولية ستواجه الكثير من العقبات التى لا لزوم لها.
نقلًا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع