بقلم : د. حسن أبوطالب
للمرة العاشرة تقريباً تدعو موسكو كلاً من الإسرائيليين والفلسطينيين للاجتماع فى موسكو ومناقشة البدء فى مفاوضات تعتبرها روسيا مهمة للغاية لتسوية القضية الفلسطينية واستقرار الشرق الأوسط ككل، الدعوة صرح بها وزير الخارجية لافروف فى مؤتمر بروما قبل أسبوع وربطها بما سماه لقاء «بدون شروط مسبقة»، وقد وجدت تلك الدعوة ترحيباً من مسئولى السلطة فى رام الله، وصداً غير مباشر من قبل المسئولين الإسرائيليين الذين تجاهلوا الدعوة عدا الوزيرة المتطرفة ميرى ريغيف التى رفضت الدعوة صراحة، معتبرة أنها غير واقعية، ومن يتأمل الدعوة يجد أنها تتراوح بين مستويين؛ إما مجرد لقاء بين قيادتى الطرفين برعاية الرئيس بوتين لإذابة الثلج ومن ثم إعادة التواصل بينهما لإحياء مسيرة المفاوضات المجمدة، وإما دعوة لوساطة روسية لمفاوضات برعايتها ونهاية بالتوصل إلى تسوية مقبولة وقادرة على الصمود، وإذا وضعنا الظرف الزمنى الذى يحيط بمثل هذه الدعوة، سنجد أن قابلية تحقيقها فى أى من هذين المستوييْن تبدو ضعيفة للغاية.
الظرف الزمنى هنا يلعب دوراً مهماً على أكثر من مستوى، فهناك أزمة سياسية فى إسرائيل بعد استقالة وزير الدفاع ليبرمان وخروج حزبه من الائتلاف الحكومى برئاسة نتنياهو على خلفية الاختلاف بشأن الهدنة مع قطاع غزة، الأمر الذى أضعف تلك الحكومة ولم تعد لها غالبية فى الكنيست إلا بصوت واحد فقط، ناهيك عن دعوات بعض القوى السياسية للتبكير بالانتخابات البرلمانية قبل عام من موعدها المقرر، وفى حال كهذا يصعب على رئيس الحكومة المخاطرة بأمر يحتاج دعماً نيابياً أكبر مما يملكه بالفعل، وهناك أيضاً السياسة الإسرائيلية المعتادة والمعلنة، وقوامها أن الولايات المتحدة هى الطرف الوحيد المقبول للإشراف على أى مفاوضات مع الفلسطينيين، ولا يوجد أى متابع للشأن الإسرائيلى يمكنه أن يتوقع تحول الحكومة الإسرائيلية الراهنة عن تلك السياسة وخسران الدعم الهائل الذى تحصل عليه من الولايات المتحدة أياً كان الرئيس الذى يدير شئون البيت الأبيض، وفى حالة وجود رئيس مساند وداعم بقوة وبلا حدود لإسرائيل كما هو الحال مع الرئيس ترامب، فمن الغباء انتظار أو توقع أن تلجأ تل أبيب إلى موسكو، التى بدورها تمثل حساسية كبرى سياسياً واستراتيجياً للمؤسسات الأمريكية جميعها بدون استثناء.
ثم إن إسرائيل الآن تعتبر أن كل التطورات الإقليمية، كخروج كل من العراق وسوريا من المنظومة العربية فعلياً وانغماسهما فى شئونهما المحلية الملتهبة، وانفتاح بعض الأطراف العربية عليها تخفف عنها أية ضغوط بشأن الإسراع فى مفاوضات مع الفلسطينيين على أرضية حل الدولتين، الذى تفعل كل ما يمكن فعله من أجل إجهاضه نهائياً، وتثبيت احتلال الضفة الغربية إلى أجل مستدام، وإذا كانت موسكو قدمت لتل أبيب وحكومة نتنياهو تحديداً بعض الخدمات الاستراتيجية الجليلة فى سوريا فى مجال الأمن، تمثلت فى إبعاد أى وجود عسكرى رسمى أو شبه رسمى لإيران وحلفائها عن الحدود السورية الإسرائيلية بأكثر من 85 كم، والعودة مرة أخرى إلى تفاهمات العام 1975 بشأن تنظيم حركة السفر من وإلى الجولان السورى المحتل، فما زالت إسرائيل ترى أن على موسكو أن تساعد بجدية فى إخراج الإيرانيين تماماً من الأراضى السورية.
الظرف الراهن فلسطينياً لا يخلو من قيود وعثرات، بداية من الانقسام الفلسطينى ومروراً بتعثر المصالحة الفلسطينية ونهاية بعدم وجود رؤية فلسطينية مدعومة من غالبية الشعب الفلسطينى بشأن المفاوضات مع إسرائيل، ومن القيود أيضاً رؤية الرئيس عباس نفسه لهذه المفاوضات ومن يرعاها، فبعد أن انقلبت واشنطن فى عهد ترامب على الفلسطينيين 180 درجة، وتبنت رؤية نتنياهو بشأن تصفية القضية الفلسطينية وإخراج القدس من أى مفاوضات والتلاعب الفج فى قضية حقوق اللاجئين الفلسطينيين وإنهاء العلاقة مع منظمة التحرير الفلسطينية، أوقف الرئيس عباس أى اتصالات مع المبعوثين الأمريكيين واعتبر أن واشنطن غير جديرة بالإشراف على المفاوضات المنتظرة، وأن البديل الأمثل هو أن يكون هناك تحالف دولى أو مجموعة من الدول الكبرى ودول عربية وإقليمية يدعون إلى مؤتمر دولى تنتج عنه آلية دولية تشرف على المفاوضات وعلى تطبيق نتائجها، وهى رؤية تناقض تماماً ما تسعى إليه واشنطن من طرح ما يعرف إعلامياً بصفقة القرن وغير المعروفة تفاصيلها بعد، وفرضها على الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى.
وسعياً لتطبيق هذه الرؤية الفلسطينية وتسويقها دولياً، تم طرحها على الرئيس الفرنسى ماكرون ولم يتحمس لها، أو أنه وجد أن قدرة بلاده على تبنى مثل هذه الرؤية ليست بالقدر المناسب، فضلاً عن أن فرنسا فى عهد ماكرون تتجنب أى صدام مع الولايات المتحدة فى عهد ترامب، كما طرح الرئيس عباس رؤيته أيضاً على موسكو التى أبدت تأييدها معنوياً ولكنها لم تتحرك عملياً، والأمر نفسه بالنسبة للصين والاتحاد الأوروبى.
هاتان المجموعتان من القيود ليستا وحدهما اللتين تحدان من فرص الدعوة الروسية للقاء فى موسكو بدون شروط مسبقة، هناك أيضاً قيود على الجانب الروسى نفسه، فأداء دور الوسيط أو الراعى لمفاوضات بغرض إنهاء صراع مستحكم ومعقد وممتد لسبعة عقود كالصراع الفلسطينى الإسرائيلى، فإنه يتطلب شروطاً لا خلاف عليها؛ أبرزها أن يقبل الطرفان المتصارعان هذا الدور الثالث طواعية وبثقة فى نزاهته، وثانياً أن يكون هذا الطرف الثالث لديه القدرة على تقديم الأفكار الخلاقة لتسهيل عملية التفاوض، وثالثاً أن تتوافر لديه القدرة على تقديم الضمانات للطرفين سياسياً وأمنياً ومالياً من أجل تطبيق ما يتم التوصل إليه، ورابعاً أن يكون مدعوماً بتأييد دولى للقيام بهذا الدور، وهى شروط تبدو عسيرة فى الحالة الروسية الراهنة، لا سيما فى ضوء الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية التى تتعرض لها من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا، التى صرح أحد وزرائها بأن روسيا تمثل الخطر الأكبر على بلاده وقبل أى خطر أو تهديد آخر.
ولا شك أن الرئيس بوتين يدرك المساحة الضيقة للغاية التى يتحرك فيها دولياً وشرق أوسطياً، وبالرغم من الدور الكبير الذى قامت به روسيا فى هزيمة المشروع الغربى التركى لإسقاط نظام الرئيس الأسد، وانفتاحها على الكثير من الدول المهمة والرئيسية فى الشرق الأوسط سياسياً وعسكرياً وتنموياً، والتطورات السياسية والاستراتيجية مع الجانب التركى بشأن سوريا وخطوط الغاز لأوروبا، والعلاقة مع إيران، فما زال أمام موسكو الكثير لكى توازن النفوذ الأمريكى فى قضايا وشئون المنطقة ككل، ولذا تظل دعوتها لعقد لقاء فلسطينى إسرائيلى نوعاً من العلاقات العامة الدولية.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع