بقلم - حسن أبوطالب
خشية من الانزلاق لحرب أهلية، قرر السيد مقتدى الصدر إلغاء المظاهرات التى دعا إليها السبت المقبل إلى أجل غير مسمى. وهى المظاهرات التى كان يفترض أن تدعم رؤيته لإصلاح العراق وإزالة الطبقة الفاسدة وإقرار الانتخابات المبكرة. وكان الإطار التنسيقى الذى يضم الأحزاب السياسية الموالية لإيران، وأبرزها ائتلاف دولة القانون بزعامة نورى المالكى، وتحالف الفتح بزعامة هادى العامرى وتحالف النصر بزعامة حيدر العبادى وهيئة «الحشد الشعبى» برئاسة فالح الفياض، التى تطرح رؤية مغايرة تدعى الحفاظ على الدولة ومؤسساتها، ومفادها ضرورة عقد البرلمان أولاً، وتشكيل حكومة يرأسها محمد السودانى المُقرب من رئيس الوزراء الأسبق نورى المالكى، ثم بعد ذلك النظر فى موضوع الدعوة إلى انتخابات مبكرة.
الدعوات إلى التظاهر والتظاهر المضاد تلخص مسارين رئيسيين فى العراق: أولهما مسار الأزمة تلو الأزمة، وذلك دون أفق قابل للتطبيق يُحدث انفراجات سياسية حقيقية، يُبنى عليها تنقية البلاد من مسببات الأزمة، وأبرزها المحاصصة الطائفية، وتغلغل الفساد والنفوذ الإيرانى الممتد، والسطو على مقدرات وموارد الدولة. أما المسار الثانى فهو اللجوء إلى الشارع وتجاوز المؤسسات والقواعد الحاكمة وفقاً للدستور وفرض الإرادة السياسية. وكلا المسارين يجسد عمق أزمة المؤسسات، لا سيما البرلمان والقضاء، فضلاً عن الألغام القائمة فى الدستور التى تتيح تفسيرات متناقضة للحالة ذاتها، وفقاً لرؤية القضاة الشخصية، وفقدان الأمل لدى المواطنين فى تحسّن الأوضاع، والأهم غلبة القيادات الكاريزمية الشيعية ذات الخلفية الدينية فى توجيه الأحداث دون وضوح مجمل الرؤية الداعية لتعبئة المواطنين فى الشارع وتعطيل عمل المؤسسات.
المساران معاً يدفعان العراق إلى حالة من الجمود السياسى، ويكشفان حدود بناء ديمقراطية دون الإيمان بضوابطها المؤسسية والأخلاقية والمعنوية والقانونية، وهو ما يطرح أسئلة عديدة حول كيفية الخروج من الأزمة الراهنة، ومصير دعوات الإصلاح المؤسسى فى ظل إخفاق المؤسسات القائمة وعدم قدرتها على أداء مهامها.
والحقيقة أن دعوة السيد مقتدى الصدر إلى الإصلاح الشامل ليست مرفوضة فى حد ذاتها، وهناك تيارات سياسية وإن كانت أقل تأثيراً فى المنظومة السياسية القائمة، مثل الحزب الشيوعى العراقى وأحزاب سنية، ومجموعة الحراك المدنى العراقى التى لعبت دوراً مهماً فى احتجاجات العالم 2019، وجميعها تؤيد دعوة الإصلاح الشامل من حيث المبدأ، وتؤيد الانتخابات المبكرة، ولكنها تتحفظ على مواقف سابقة للتيار الصدرى، أبدى فيها دعمه لمبادئ الإصلاح ومواجهة الفساد، ولكنه تراجع عنها بعد أن حصل على بعض المنافع السياسية ومناصب لشخصيات محسوبة على تياره فى البرلمان وفى الحكومة، وبعض هؤلاء متورطون فى فساد اعترف به علناً مقتدى الصدر فى خطبة النجف التى دعا فيها إلى التظاهر من أجل الإصلاح وحل البرلمان. ويجسد هذا التشكك فى مدى صلابة موقف التيار الصدرى للإصلاح الشامل قدراً من التردد فى مؤازرة الفكرة بقوة وقدراً من الحذر فى مساندة أنصار التيار الصدرى واعتصامهم فى البرلمان.
ويضاف إلى ذلك أنه لا توجد رؤية موثّقة من قبل زعيم التيار الصدرى حول المطلوب من أجل الإصلاح المؤسسى والدستورى والخطوات القانونية التى سيتم اتباعها، وكيفية تغيير بعض مبادئ الدستور التى تثير إشكاليات عملية كثيرة وتتسبب فى المزيد من الأزمات السياسية. وما يزيد من التباعد السياسى والفكرى أن التيارات المدنية لا تشارك فى حوارات جادة مع التيار الصدرى لتحديد ملامح خطة الإصلاح المنشود.
التحفظات السابقة قد تفيد شكلاً الإطار التنسيقى، ولكنها عملياً لا تضيف إلى رصيده الشعبى شيئاً، لا سيما أن داخل هذا التيار فروقات كبرى حول الخطوات المقبلة. فبينما يصر نورى المالكى على تشكيل حكومة باعتبار أن مجمل أحزاب التيار تشكل أغلبية فى البرلمان، يؤيد تحالف النصر وتحالف الفتح مبدأ الانتخابات المبكرة، وترى أن الحوار مسألة ضرورية مع التيار الصدرى لمنع تفجر الأوضاع داخل الكتلة الشيعية. ويلاحظ هنا أن محاولة هادى العامرى، زعيم تيار الفتح، فتح قنوات اتصال مع الأحزاب السنية والحزبين الكرديين الكبيرين الديمقراطى الكردستانى والاتحاد الوطنى الكردستانى، لغرض إقناعهما بعقد البرلمان وتشكيل حكومة وانتخاب رئيس جمهورية من الأكراد، قد باءت بالفشل، ما يضعف الدعوة إلى أولوية تشكيل حكومة فى ظل هذه البيئة المتوترة القابلة للانفجار والمواجهات الشعبية المسلحة.
وتبدو مخارج الأزمة من الناحية القانونية مسدودة تماماً، ووفقاً لمجلس القضاء الأعلى أنه ليس من حقه أن يحل البرلمان. وكانت المحكمة التمييزية قد قدمت تفسيرات مبتدعة حول تعريف الكتلة الكبرى التى يحق لها تشكيل الحكومة بأنها الكتلة الكبرى فى البرلمان وليست الأكبر من حيث عدد النواب وتفويض الناخبين، ما أضاع حق التيار الصدرى الفائز الأكبر فى الانتخابات الماضية فى تشكيل حكومة أغلبية وفقاً للمبادئ الديمقراطية السليمة، كما قدمت تعريفاً لما أسمته بالثلث المعطل. وكلا التعريفين المبتدعين منحا حقوقاً غير مشروعة أخلاقياً أو سياسياً لأحزاب الإطار التنسيقى، رغم حصولها على عدد أقل من المقاعد النيابية، لكى تشكل الحكومة، الأمر الذى اعترض عليه التيار الصدرى وانسحب من البرلمان وأدخل البلاد فى أزمة الإصلاح الهيكلى والدستورى.
دستورياً لا يحل البرلمان إلا نفسه، أو من خلال طلب من رئيس الوزراء يوافق عليه رئيس الجمهورية. ومن الناحية الواقعية فإن حكومة مصطفى الكاظمى لتصريف الأعمال ليس من حقها أن تطلب حل البرلمان، وهو أصلاً غير منعقد، كما أن رئيس الجمهورية الحالى برهم صالح قد انقضت مدته، وليست له صلاحية حل البرلمان منفرداً. وفى انتظار اختيار رئيس جديد للعراق إذا توافق على ذلك الحزبان الكرديان الكبيران، وهو توافق لم يحدث حتى اللحظة.
الأزمة الراهنة ليست كالأزمات السابقة، فهى خليط من تعقيدات دستورية وقانونية وخلافات وصراعات كبرى فى البيت الشيعى الأكبر، وبدع قانونية غير مسبوقة، ومؤسسات معطلة وحكومة ذات صلاحيات محدودة، وأحزاب سنية ومن ورائها قبائل وعشائر مختلفة تقف موقف المنتظر دون حركة، وتدخلات إيرانية وتركية مُعلنة وغير مُعلنة، ما يجعل الجمود السياسى اختياراً حتمياً لعام على الأقل إن لم يمتد إلى عدة سنوات. وفى حال غيرت بعض القيادات فى الإطار التنسيقى الموالى لإيران مواقفها من دعوة الصدر للانتخابات المبكرة، وتحديد خطوات عملية لإنهاء هذا الجمود، فلن يقل المدى الزمنى المطلوب للبدء فى عملية الانتخابات المبكرة عن ستة أشهر، وفى كل الأحوال ليس هناك ضمان فى أن يحترم المتنافسون نتائج تلك الانتخابات إن جرت بالفعل.