بقلم : د. حسن أبوطالب
فى الأول من فبراير الحالى علقت الولايات المتحدة التزاماتها الخاصة باتفاقية القوى النووية متوسطة المدى، وبعدها بيوم أعلن الرئيس بوتين موقفاً مماثلاً، والإعلان عن إنتاج منظومات أسلحة جديدة، لا سيما صواريخ فائقة السرعة وبعيدة المدى ونشر صواريخ مجنحة من طراز كاليبر البحرية على البر، وفى الآن نفسه عدم المبادرة لفتح حوار مع واشنطن بشأن المعاهدة، التى تلزم الطرفين بعدم إنتاج صواريخ يفوق مداها 500 كم، والتخلص من عدد كبير من الصواريخ التى يتراوح مداها بين 500 و5500 كم. والموقفان يفتحان الباب أمام سباق نووى جديد يعيد إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة التى استمرت ما يقرب من خمسة عقود، كان فيها الانقسام العالمى والاستقطاب السياسى والأيديولوجى بمثابة المحرك الأساسى للتفاعلات الدولية.
ومن الناحية القانونية لا تزال معاهدة القوى النووية متوسطة المدى والموقعة فى العام 1987 سارية شكلاً، وما زال أمام الطرفين ستة أشهر لإنهاء العمل تماماً بالمعاهدة، وهى الفترة التى سيتم خلالها إتمام إجراءات الانسحاب رسمياً، هذا فى حالة ما إذا لم تلتزم موسكو حرفياً بالمعاهدة وفقاً للتفسير الأمريكى الذى يشترط أن تتخلص روسيا من كل الأسلحة والمنظومات والمبانى والمرافق التى تعدها انتهاكات خطيرة. وهو ما اعتبره الرئيس بوتين تهديدات وإنذارات غير مقبولة.
الموقف الأمريكى يركز على سببين للانسحاب من المعاهدة؛ الأول أن روسيا انتهكت المعاهدة وطورت العديد من منظومات الصواريخ متوسطة المدى، وأبرزها الصاروخ 927 إم 9 الذى يفوق مداه 500 كم متر، وهو ما تنفيه موسكو وتؤكد أن مدى الصاروخ 480 كم وأنه تطوير لنسخة سابقة، ولكنه أصبح قادراً فى نسخته الجديدة على حمل أربعة رؤوس نووية فى حدود المدى المسموح به فى المعاهدة. والثانى هو أن الولايات المتحدة تواجه تهديدات كبيرة من دول عدوة كالصين وكوريا الشمالية وإيران، وهى دول تنتج صواريخ بعيدة المدى ويمكن أن تصل إلى الولايات المتحدة، فضلاً عن العديد من حلفائها.
حقيقة الموقف الأمريكى فى ظل إدارة ترامب أبعد من هذين السببين؛ فشعار أمريكا أولاً الذى يتبناه «ترامب» وإدارته يتضمن الخروج من كل المعاهدات والالتزامات القانونية التى يعتبرها «ترامب» تقيد بلاده من الوصول إلى مدى القوة والتفوق الذى تريده وتستطيع الوصول إليه فى أى مجال سياسى أو عسكرى أو اقتصادى أو تكنولوجى أو مالى أو تجارى، بهدف ضمان التفوق الأمريكى الأبدى على العالم بأسره. وفى إطار هذا الشعار أصبح البحث عن ذرائع واهية للخروج من تلك الاتفاقية أو هذه المعاهدة الدولية الجماعية أو الثنائية مع طرف آخر هو الطريق الأقصر للانسحاب والتخلى عن كل الالتزامات مهما كانت النتائج.
يرتبط بما سبق إدراك لدى الساسة اليمينيين والشعبويين وشركات الأسلحة الكبرى بأن تلك المعاهدات الدولية قيدت قدرة بلادهم على تحقيق تفوق هم قادرون عليه بالفعل، فى الوقت نفسه فإن القوى الأخرى المناهضة اقتربت من تحقيق التفوق على أمريكا فى مجالات عديدة من بينها منظومات صواريخ فائقة الدقة وفائقة السرعة وقادرة على حمل أسلحة نووية وبما يهدد الأمن القومى الأمريكى، وللخروج من هذا المأزق فعلى البيت الأبيض أن يتخلص من أى قيود، وأن يفتح الباب أمام صنع وتطوير منظومات أسلحة متنوعة وغير تقليدية، بما فى ذلك أسلحة تنتشر فى الفضاء الخارجى وبما يردع أى قوة معادية.
وقبل عام وحين نشرت وثيقة مراجعة الموقف النووى ومن قبل وثيقة الأمن القومى الأمريكى، تم التركيز على أهمية تطوير القدرات النووية الأمريكية حتى العام 2030، عبر صيانة الصواريخ الموجودة بالفعل، المسموح بها وفقاً لمعاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الموقعة فى عهد الرئيس أوباما عام 2000، وعبر تطوير رؤوس نووية صغيرة أو محدودة القدرة وبحيث يمكن استخدامها فى الحروب بدلاً من الأسلحة النووية شديدة التأثير التى تمحو مدناً بأكملها. وقد تم ربط هذه الفكرة بمبدأ الردع من منظور جديد. إذ يعتقد المخططون الاستراتيجيون الأمريكيون أن الأسلحة النووية شديدة التأثير الأكثر من 20 طناً، ينظر إليها كثيرون أنها غير قابلة للاستخدام، وبالتالى فقدت قوتها الردعية، ويرون أن إنتاج رؤوس نووية أقل من 20 طناً، أو محدودة التأثير كالتى تم استخدامها فى هيروشيما وناجازاكى، تشكل قوة ردع أكبر، لأنها ستكون قابلة للاستخدام فى ميادين الحروب وفى مدن بعينها لدى الدول المعادية، وبالتالى سيؤدى ذلك إلى ردع تلك الدول.
ولا تتوقف الأهداف الأمريكية عند مفهوم أو مستوى ردع جديد للقوى المعادية، بل أيضاً التفكير فى استخدام تلك الأسلحة النووية بالفعل فى أراضيهم وفق شروط أمريكية معينة كعدم الانصياع للسياسات الأمريكية، أو تمكن دولة معادية من تحقيق تفوق فى مجال معين، فيمكن عندها الدخول معها فى حرب نووية محدودة تعيدها إلى أوضاع متخلفة سابقة، ويتم ترشيح الصين لمثل هذا النموذج. وأيضاً منع أى قوة نووية من استخدام أسلحتها النووية والصاروخية بعيدة المدى فى وقت الإطلاق ذاته سواء كان براً أو بحراً من خلال عسكرة الفضاء ونشر منظومات وقواعد فضائية وطائرات ومركبات مُسيرة ذات طبيعة خاصة وبصورة دائمة يمكنها استخدام أسلحة حديثة كالليزر، أو صواريخ مجنحة فائقة السرعة بحيث تدمر الصاروخ المعادى وقت إطلاقه فى قاعدته الأصلية، ويتم ترشيح روسيا وكوريا الشمالية وإيران لهذا النموذج. والفكرة هنا تتعلق بمنع تلك القوى المعادية حسب التصنيف الأمريكى، أى روسيا والصين وكوريا الشمالية، من القيام بأى ضربة ثانية إذا تعرضت لضربة أمريكية أولى. ومعروف أن مفهوم الضربة الثانية يمثل أساس الردع النووى المتبادل منذ الخمسينات من القرن الماضى، ومن شأن الوصول بإحدى القوى النووية إلى مرحلة منع الآخرين من توجيه ضربة ثانية انتقامية للرد على الضربة الأولى، فهذا معناه التفوق المطلق وحرية استباحة الآخرين دون توقع أى مقاومة. والواضح أن روسيا وأيضاً الصين، وإن فى مدى أقل، لديهما القدرة على صنع أسلحة مضادة، كما أن عسكرة الفضاء لن تتوقف على الولايات المتحدة وحسب، فالرئيس بوتين ألمح صراحة إلى أن بلاده تراقب عن كثب النشاط الأمريكى لعسكرة الفضاء وسترد عليه.
التفكير الأمريكى على هذا النحو يعنى أن العالم عليه فى زمن متوسط أن يستعد لمجموعة من الحروب النووية التى يراها هذا اليمين الأمريكى ثمناً بسيطاً لتفوقهم الدائم. أما حرية الإنسان والتسامح والديمقراطية فهى مجرد شعارات واهية لا معنى لها.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع