بقلم : د. حسن أبوطالب
تتوالى الأحداث فى سوريا، فى يومين متتاليين يُفتتح معبر نصيب جابر مع الأردن، ومعبر القنيطرة مع الجولان السورى المحتل، وفى مطلع سبتمبر الماضى تم افتتاح معبرى الدبوسية والعريضة الحدوديين مع لبنان، ومن قبل افتتح معبر القاع جوسيه. التبريرات التى قيلت فى افتتاح تلك المعابر تتعلق بتأمين الحدود وابتعاد الجماعات الإرهابية والمسلحة، والأهم سيطرة القوات السورية على الحدود مع تلك البلدان، وفى جوهر الأمر هو اعتراف بأن الحكومة السورية بهيكليتها الحالية لم يَعد هناك من ينازعها الشرعية، ولم تعد مجالاً للتأويل من هؤلاء الجيران، يضاف إلى ذلك أن الدافع الاقتصادى لا سيما لدى كل من الأردن ولبنان لعب دوراً فى سرعة التأقلم مع الأوضاع الجديدة فى سوريا.
افتتاح المعابر على هذا النحو دليل بارز لا يقبل الشك على تحول جوهرى فى الوضع السورى، لم يعد الحديث الإعلامى لبعض القوى الإقليمية عن نزاع أو صراع بين النظام وجيشه من جانب، وبين المعارضة ومسلحيها وذيول الجماعات الإرهابية من جانب آخر يحجب الحقائق الجديدة على الأرض، فسوريا الدولة تستعيد عافيتها، وباتت أقرب إلى الانتصار الكامل على قوى الإرهاب والمسلحين من أجناس عدة، ما زالت هناك عقبات أخرى لا بد من الاعتراف بها، فتحرير إدلب من بقايا الجماعات الإرهابية ومن يُسمون بالمعارضة المسلحة الموالين لتركيا يمثل العقبة الأكبر فى هذه المرحلة، يشاطرها الوصف ذاته وجود القوات التركية التى تعد من منظور القانون الدولى قوات احتلال، وكذلك القوات الأمريكية المنتشرة فى أقصى الشمال السورى، فضلاً عن القاعدة الموجودة فى التنف بالقرب من مثلث حدودى بين سوريا والأردن والعراق، وهى القاعدة التى تحاصرها القوات السورية من كافة الاتجاهات منذ ديسمبر الماضى، ما شكل أساساً للاتفاق بين روسيا وأمريكا على تسوية الوضع فى جنوب البلاد واستعادة سيطرة الدولة السورية على تلك المنطقة بعد إبعاد المسلحين والإرهابيين منها.
هذه الحقائق الإيجابية بالنسبة للدولة السورية لا تخفى أيضاً إشكاليات كبرى بشأن مصير الوجود الإيرانى سواء فى شكله المدنى أو العسكرى أو شبه العسكرى، وهو الوجود الذى كان له دور كبير فى مساندة القوات السورية ضد الجماعات المسلحة والإرهابية، وهو وجود يخطط أن يكون أكثر تأثيراً فى مرحلة إعادة إعمار سوريا بعد التوصل إلى صيغة تسوية سياسية تضمنها الأمم المتحدة، وينطبق الأمر ذاته على الوجود العسكرى الروسى، الذى بدوره له نصيب حاسم من الانتصار على إرهاب داعش والقاعدة وتوابعهما، وكلاهما يُنظر إليه سورياً على أنه وجود مشروع لأنه نتيجة تحالف واتفاق مع الجهة الشرعية، أما الوجود العسكرى التركى فهو وجود قسرى غير مشروع يمثل حالة احتلال صارخة، ولكنها مُغطاة بتوافق مع كل من روسيا وإيران للسيطرة على حالة الحرب فى شمال سوريا المُحاذى للحدود التركية.
هذه الحالة من التداخل بين انتصار الدولة السورية وانحسار الإرهاب واستتباب الأمر لوجود عسكرى مشروع وآخر غير مشروع، وكل ذلك بعيد عن وجود عربى فاعل، يطرح إشكالية كيفية استعادة العلاقات العربية لسوريا، الأمر هنا لا يتعلق باستعادة عضوية سوريا فى الجامعة العربية وحسب، بل فى استعادة علاقات طبيعية بين بلد مهم ومؤسس للجامعة العربية وباقى أطراف المنظومة العربية، فى هذا السياق ثمة انقسام بين مجموعتين من الدول العربية؛ الأولى ترى أنه من المبكر التفكير فى التراجع عن تعليق عضوية سوريا فى الجامعة العربية، والثانية ترى أن تعليق عضوية سوريا كان خطأ لا بد من التراجع عنه فى أقرب ظرف ممكن، ولما كان قرار إلغاء تجميد عضوية دمشق بالإجماع مع تحفظ ثلاث دول آنذاك، فهو يتطلب الإجماع ذاته لإلغائه، وتلك بدورها حجة ذات طابع شكلى قانونى، ولكنها تصب فى مصلحة الرافضين بحث الأمر فى الوضع الحالى.
لقد حاول العراق منذ منتصف العام الماضى وبعد التنسيق بين بغداد ودمشق فى محاربة بقايا داعش فى كلا البلدين وفى السيطرة على الحدود المشتركة بينهما، اتخاذ خطوة لإقناع دول مهمة ومؤثرة عربياً لإفساح المجال لتصحيح خطأ تجميد عضوية سوريا، غير أن المحاولة لم تنجح فى بناء إجماع عربى مناسب، الذين يدافعون عن ضرورة وأهمية تصحيح الخطأ يستندون إلى أن الحاجة العربية لسوريا لا تقل عن حاجة سوريا لدعم عربى عام، فعزل سوريا عربياً أسهم بدوره فى تغلغل قوى غير عربية فى عمق المجتمع السورى، وشكل بالفعل قاعدة نفوذ سياسى ومعنوى وقيمى تؤثر بدورها على عروبة سوريا مهما قيل غير ذلك، وفى المدى البعيد سيكون من الصعب محاصرة مثل هذا النفوذ، وحتى إذا حاولت قوى سورية عروبية أن تدافع عن قيمها وحضارتها وعن تاريخها بدون سند ومساندة من المجتمعات والدول العربية، فلن تحقق الكثير، مثل هذه النظرة التى تجمع بين إدراك الحقائق الجديدة على الأرض السورية وبين التحرك من أجل الحفاظ على عروبة سوريا الدولة والمجتمع تبدو غائبة عن كثير من العرب، وتلك بدورها إشكالية أخرى بحاجة للمواجهة والمناقشة بكل شفافية واقتدار.
فى الداخل السورى أيضاً يوجد للأسف الشديد اتجاهات مضادة لفكرة العروبة، التى باتت فى نظر هؤلاء مسألة شكلية تقيد الخيارات الوطنية، وتمثل عبئاً، ولن تضيف شيئاً للدولة السورية المنتصرة حسب رؤيتهم، هؤلاء يرون الجامعة العربية لم تفعل شيئاً لحماية الدولة السورية، وأنها شكلت مظلة وقناة لترحيل الأزمة فى بدايتها إلى الأمم المتحدة، ومن ثم فقدت دورها ووفرت المناخ لتدخلات أمريكية وتركية وإسرائيلية وعربية استهدفت القضاء على النظام وعلى الدولة، وبالتالى فهم ليسوا بحاجة إلى مثل هذه المظلة، هؤلاء متأثرون بشكل أو بآخر بالنفوذ الإيرانى المتصاعد، وإن كان لا يمكن التهوين من تأثيرهم النسبى، ومع ذلك لا يجب الانتهاء عند تحليلاتهم أو اعتبارها الموقف النهائى للمجتمع السورى عروبى المنشأ والمنهج.
سوريا بحاجة إلى مبادرة عربية جادة لإعادتها إلى حضن العروبة الحقيقى، على الرافضين من الجانبين أن يدركوا أن لا شىء يقف عند حساسيات قديمة ورؤى ثبت فشلها، فمصالح الشعوب أقوى من تلك الحساسيات، الواقعية تقتضى النظر لعروبة سوريا والحفاظ عليها باعتبارها مصلحة للإقليم ككل، الذين استأسدوا على سوريا حين تركها العرب وحيدة باتوا يتصورون أنهم قادرون على الاستئساد على باقى العرب. إفشال مشروعهم فى سوريا هو خطوة ضرورية للحفاظ على هويتهم وعروبتهم واستقلاليتهم ذاتها.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع