بقلم : د. حسن أبوطالب
فى عالم الصحافة خاصة والإعلام عامة تلعب الصورة دوراً مهماً فى إيصال رسالة أو تجسيد معنى قد يتطلب شرحه مقالاً يتضمن عدة مئات من الكلمات، فالصورة أكثر بلاغة وأكثر إقناعاً وأسرع وصولاً إلى العقل، ووفقاً للتقاليد الإعلامية الرصينة فالصورة الصحفية هى تلك التى ترصد لحظة زمنية بذاتها دون أن تتعرض لأى تغيير أو تلاعب من خلال تقديم أو تأخير بعض العناصر لكى تقدم معنى يختلف عن ذلك الذى كان فى الواقع، ولذا ففى المسابقات الصحفية المحترمة لا يمكن لصورة تم التلاعب فى مكوناتها أن تحصل على أى جائزة أو حتى إشادة.
الصورة الصحفية بهذا المعنى تسجل حدثاً وترصد واقعاً فى أقل من ثانية ولكنه ملىء بالدلالات والمعانى، وفى قمة العشرين للدول الأكثر تقدماً اقتصادياً، التى عقدت مؤخراً فى الأرجنتين، وجمعت عدداً من رؤساء الدول والحكومات الذين تُشكل بلدانهم 85 فى المائة من إجمالى الإنتاج العالمى، ويعيش فيها 80 فى المائة من سكان العالم، وتستحوذ على ثلثى التجارة العالمية، وتجذب ثلاثة أرباع الاستثمارات على مستوى العالم ككل، فقد شهدت مزيجاً بين اللقاءات العامة لكل الحاضرين ولقاءات ثنائية تم التخطيط لها مسبقاً، وأخرى لقاءات عابرة بين هذا الرئيس أو ذاك، وفى تلك اللقاءات العابرة حدثت مفارقات لا تخلو من معنى كبير، وفى كل هذه المستويات كانت الصورة دليلاً على ماذا جرى، ويمكنها أيضاً أن توحى بما قد يجرى فى قادم الأيام.
من أهم الصور التى تعنينا ثلاث؛ الأولى صورة تجمع بين الرئيس الروسى بوتين وولى العهد السعودى، وفيها يظهر الرئيس بوتين مقبلاً ورافعاً يده، ومحيياً بحرارة ملحوظة ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان، وفى طرف بعيد من الصورة يظهر جزء من وجه الرئيس الأمريكى ترامب وهو ينظر باستغراب فى التحية المتبادلة بين الرئيس بوتين وولى العهد السعودى، والصورة الثانية فقد جمعت بين الرئيس بوتين أيضاً والرئيس التركى أردوغان فى لقاء رسمى جمع بينهما، وفى الصورة يظهر بوتين وهو يتحدث بتركيز شديد وبعض الغضب بادٍ على ملامح وجهه، وينظر بعيداً عن ضيفه الذى بدا منزعجاً بعض الشىء وقسمات الوجه بها قدر من الجمود والشحوب معاً، أما الصورة الثالثة فتجمع بين ولى العهد السعودى وهو واقف استعداداً للصورة الجماعية الرسمية لقمة العشرين، ولكنه مُغلق عينيه فى اللحظة التى يمر فيها الرئيس التركى أردوغان أمامه، والأخير ينظر بجمود إلى الأمام متجنباً أى تلاق ولو عابراً.
الصور الثلاث تجمع بين قادة ثلاث دول لها تأثير كبير على عدد من القضايا الإقليمية التى تهمنا كعرب، والقضايا الدولية التى تهم العالم بأسره، كما أن بينها درجات مختلفة من العلاقات الطيبة أو المتوترة وكذلك التفاهمات والاتفاقات، ووفقاً لما ورد فى خلفية تلك الصور الثلاث وأيضاً فى معانيها الواضحة، يتأكد أن مساحة الخلاف السعودى التركى كبيرة جداً، وأن التوتر بينهما سيظل مستمراً لفترة تتعمد فيها تركيا إبقاء قضية مقتل الصحفى السعودى خاشقجى على قمة اهتماماتها السياسية والإعلامية إلى أن تحقق أهدافها؛ التى تتركز فى ابتزاز المملكة السعودية دعائياً وسياسياً من جانب، وفى إلهاء الرأى العام التركى الداخلى عن المشكلات الاقتصادية التى تعصف بالوضع التركى من جانب آخر، كما يتأكد أيضاً أن الرياض ليست فى وارد التسامح مع هذا السلوك التركى ما لم يتغير تماماً إلى ما يُفترض أن تكون عليه سلوكيات الدول ذات القيادات الناضجة سياسياً.
وفى الصورة التى تجمع بين الرئيسين بوتين وأردوغان يتضح أيضاً أن هناك انزعاجاً روسياً من عدم التزام تركيا بتعهداتها الخاصة بتسوية الوضع فى إدلب السورية والتمهيد لفتح الطرقات المقطوعة منذ خمس سنوات بين المحافظة السورية والمناطق الأخرى، وإبعاد الجماعات الإرهابية وتصفية هيئة تحرير الشام أو النُصرة سابقاً، التى تعد فرعاً لتنظيم القاعدة المصنف إرهابياً عالمياً، وهى التزامات تعهدت بها تركيا أمام روسيا فى 27 سبتمبر الماضى، وأعطيت مهلة شهراً تم تمديدها شهراً آخر، ولكن تركيا لم تفعل ما وعدت به، بل الأكثر من ذلك فقد تصورت أن هذا الاتفاق يعطيها الحق فى نشر المزيد من قواتها فى إدلب وفى عفرين ومنبج ومناطق أخرى من شمال سوريا، وكما أوضحت التطورات فإن تركيا لم تسيطر بعد على الجماعات الإرهابية، التى بادرت قبل عشرة أيام بالهجوم على حلب بالأسلحة الكيماوية، وهو ما تعتبره روسيا تجاوزاً خطيراً لن يمر دون عقاب حسب تعبيرات الرئيس بوتين نفسه.
وفى الصورة المشار إليها التى جمعت بين بوتين وأردوغان يتأكد أن الرئيس الروسى ليس راضياً عن مستوى التعاون التركى فى تهدئة الأوضاع فى إدلب خاصة وشمال سوريا عامة، وأن موسكو تُحمّل أنقرة مسئولية أى تهور عسكرى قد تقدم عليه عناصر إرهابية فى إدلب أو من يطلق عليهم معارضة سورية معتدلة مطلوب منها حسب الوعود التركية أن تتفاعل إيجابياً مع الجهود الروسية الخاصة بتشكيل لجنة الدستور المزمع كتابته ليكون بداية لسوريا جديدة، هذا الانزعاج الروسى قابلته تركيا بطلب لعقد لقاء قمة جديد بين رئيسى الدولتين، غالباً كمناورة لتفريغ شحنة الغضب الروسى، وأيضاً للتوصل إلى تفاهمات جديدة بشأن إدلب واللجنة الدستورية وخطوات الحل السياسى فى سوريا.
الصورة الثالثة تعطينا دلالات إيجابية ومؤشراً على علاقة قوية بين روسيا والسعودية، تقوم على ترحاب شخصى من جانب وتفاهمات قوية بشأن مصالح مشتركة لا يمكن التضحية بها، والمقصود بها ما يتعلق بحجم إنتاج النفط ومن ثم التأثير على أسعاره عالمياً فى المرحلة المقبلة، ومعروف أن البلديُن اتفقا قبل عام فى إطار منظمة «أوبك» على خفض الإنتاج، وقد تم الالتزام به ما ساعد على السيطرة على تراجع سعر النفط، وإبقائه فى دائرة ملائمة للمنتجين، وبعد هذا اللقاء العابر بين ولى العهد السعودى والرئيس بوتين الذى رصدته الصورة فقد تم الاتفاق على إبقاء اتفاق خفض الإنتاج سارياً لفترة أخرى، وهو ما سوف تتحدد ملامحه التفصيلية فى اجتماع «أوبك زائد» نهاية الأسبوع الحالى، وإذا حدث الاتفاق على خفض الإنتاج وتحددت أنصبة كل منتج من هذا الخفض، وارتفعت الأسعار بأى نسبة كانت، فسنكون أمام رسالة جديدة موجهة هذه المرة للولايات المتحدة، بأن «أوبك» تتحرك لحماية مصالحها ولا تخضع لضغوط الرئيس ترامب.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع