بقلم : د. حسن أبوطالب
عادت العقوبات الأمريكية على إيران بصورة أشد وأكثر شمولاً وتأثيراً على القطاعات الرئيسية للاقتصاد الإيرانى، كصناعة السيارات والسجاد وتصدير واستيراد الخامات الضرورية ومنع شراء الدولار، وهو العملة الأهم فى العالم التى لا يستطيع أن يستغنى عنها أى بلد. وفى المرحلة الثانية المقرر لها مطلع نوفمبر المقبل ستكون الطامة الكبرى، حيث تمتد العقوبات الأمريكية إلى النفط الإيرانى إنتاجاً وتصديراً واستثماراً، وهو العنصر الأهم على الإطلاق فى موارد الدولة الإيرانية، حيث يشكل 60 فى المائة من إجمالى الموازنة الإيرانية البالغة 103 مليارات دولار للعام 2018. وللتخيل فقط كيف يمكن لاقتصاد ما أن يفقد بين عشية وضحاها ما يقرب أكثر من نصف عوائده الخارجية، باعتبار أن هناك بعض الدول كالصين وتركيا والهند أعلنت أنها لن تتوقف تماماً عن استيراد النفط الإيرانى، ولكنها تعهدت، كالصين تحديداً، بعدم زيادة الكميات التى تستوردها بالفعل، الأمر الذى يشكل ضربة قوية للاقتصاد الإيرانى.
معروف أن الاستراتيجية الأمريكية المعلنة بشأن إيران تركز على تغيير سلوك النظام الإيرانى سواء تجاه شعبه أو تجاه المنطقة حوله، غير أن المُعلن كثيراً ما يكون مجرد ستار لما هو أكبر وأكثر تأثيراً. وإذا رجعنا إلى الشروط الاثنى عشر التى حددها وزير الخارجية الأمريكية «بومبيو»، فى مايو الماضى، باعتبارها متطلبات أمريكية لأى اتفاقات محتملة مع إيران بديلة للاتفاق النووى الذى انسحب منه الرئيس ترامب، فإنها تشمل المجال النووى وإنتاج الصواريخ وما تعتبره واشنطن دعماً لمنظمات إرهابية تعدها طهران منظمات مقاومة وامتداداً لسياستها الإقليمية، والإفراج عن كافة المسجونين من الدول الحليفة لأمريكا، وسحب القوات الإيرانية من سوريا، ووقف نشاطات فيلق القدس خارج إيران، وعدم تهديد الملاحة الدولية واحترام سيادة العراق. تطبيق هذه الشروط برضاء النظام أو بالإذعان يعنى فى المحصلة الأخيرة تغييراً شاملاً فى مجالات حيوية للنظام الإيرانى وهى الأسس التى يستمد منها النظام بقاءه واستمراره، وكثيراً ما تم ربطها بشعور الافتخار الوطنى غير القابل للتنازل، ما يجعل عملية التغيير تحت الضغوط الأمريكية بمثابة تنازلات صعبة عن أعمدة شرعية النظام السياسى أمام مواطنيه، ما يثير لديهم محفزات أكبر للمطالبة بتغيير النظام ذاته ولو بعد حين.
وليس بخافٍ أنه داخل الكونجرس والإدارة الأمريكية من يطالب بإسقاط النظام الإيرانى، ويعتبر أن العقوبات الاقتصادية وحدها ليست أسلوباً كافياً ولا بد من ضغوط ذات طابع عسكرى وأخرى دعائية تعد الشعب الإيرانى لكى يثور على النظام الحالى. والمعضلة التى تواجه هؤلاء تتعلق بالنظام البديل أو القوة الداخلية التى يمكنها أن تقدم بديلاً يُعتمد عليه أمريكياً. وبالرغم من محاولات تحفيز قوى إيرانية معارضة تتحرك بالفعل فى دول أوروبية منذ سنوات طويلة، إلا أن المؤشرات لا تقود إلى الرهان الكامل على هؤلاء، لسبب واضح وهو غياب التأييد الشعبى الداخلى لهم، الأمر الذى يُفقد تلك القوى المعارضة فى الخارج أساس التحرك الداخلى الناجح.
التعقيدات الكبرى التى تواجه ما بعد إسقاط النظام الإيرانى تجعل خيار توظيف العقوبات الأمريكية شبه الدولية بمثابة مدخل مثالى لإجبار المؤسسة الإيرانية الحاكمة على إعادة النظر فى مجمل السياسات ومجمل الأداء وفى أدوار المؤسسات الدينية والسياسية والتشريعية. قد يأخذ تحقيق هذا الهدف بعض الوقت، وسوف يواجه بمحاولات إيرانية للتخفيف من آثاره، ولكنه البديل الآمن حتى الآن من وجهة نظر المخططين الأمريكيين.
الجانب الآخر من الصورة، أى إيران، يتعلق بأمرين مهمين؛ أولهما استمرار الاحتجاجات الشعبية المُطالبة بالخدمات الأساسية التى تعجز عن توفيرها الحكومة، والغاضبة من تدهور قيمة الريال وتأثيره الكبير على مستوى المعيشة، وبمواجهة الفساد المنتشر فى ربوع الإدارات الحكومية، وأيضاً الساعية إلى تغيرات فى الأداء العام داخلياً وخارجياً. وثانيهما التخبط فى الأداء الرسمى سواء بالنسبة لمحاولات تثبيت سعر الصرف والتخفيف من حدة أزمة الدولار الأمريكى، أو مقايضة مبيعات النفط بالسلع للالتفاف على ندرة الدولار. والأمران معاً يضعفان من سطوة النظام ويضعانه بالفعل أمام مفترق طرق ملىء بالتعقيدات والخيارات المرة والتضحيات الجسيمة. وكل ذلك يجعل من بقاء النظام الإيرانى بشكله الراهن مسألة شبه مستحيلة. خاصة أن الرهان الإيرانى على ممانعة أوروبية للعقوبات الأمريكية ثبت فشله وعدم قدرته على تقديم دعم مناسب لطهران يخفف من تأثير العقوبات الأمريكية.
وحتى مع افتراض القدرة على الاستمرار بنفس المؤسسات والقيادات والرموز، فإن استمرار السياسات ذاتها يبدو أمراً خارج قدرة الجميع. وهنا تبدو التهديدات بحرب أو مواجهة عسكرية مع القوات الأمريكية فى منطقة الخليج، أو التهديد بالتأثير على حركة الملاحة الدولية، خاصة فى مضيق هرمز، بمثابة سلاح ذى حدين، كلاهما يمكن توجيهه إلى المصالح الإيرانية ذاتها وليس مصالح أعدائها أو القوى المنافسة لها. فتوقف الملاحة عبر مضيق هرمز سيعنى، إلى جانب وقف تصدير النفط لدول أخرى فى المنطقة، وقفاً لصادرات النفط الإيرانى نفسه، التى يرجح أنها ستتوجه إلى كل من الصين والهند، وبما يُفقد إيران تأييد هاتين الدولتين من جانب، ويدفعهما إلى التخلى عن النفط الإيرانى لاحقاً، فضلاً عن فقدان مصدر جزئى ومهم للعملات الأجنبية. وفى المحصلة فإن فكرة الحرب أو المواجهة العسكرية، التى تبدو نظرياً عاملاً لتفوق إيران وإضافة لقدرتها على مقاومة العقوبات الأمريكية، إذ بها واقعياً عامل ضعف مركب.
وبالرغم من حدة الموقف الأمريكى وقسوته، تبدو دعوة الرئيس ترامب للتفاوض مع قادة إيران، دون شروط مسبقة، حسب كلمات «ترامب» ذاته، التى فى حقيقتها دعوة مكبلة بالشروط والقيود والإملاءات، أحد البدائل المتاحة نظرياً، وإن لم تخلُ من عقبات وقيود عملية تتعلق بالمؤسسة الإيرانية ذاتها والحفاظ على ماء الوجه أمام الشعب، من أهمها الطريقة التى سيتم بها إقناع الشعب الإيرانى بجدوى التفاوض مع الولايات المتحدة فى ظل العقوبات الأقرب إلى حرب اقتصادية شاملة، وأنها البديل المتاح للحفاظ على الدولة الإيرانية واستعادة علاقاتها الخارجية بطريقة طبيعية. وفى ضوء تلك التشابكات بين الممكن والمتاح من جهة، والقدرة المنخفضة على مقاومة العقوبات والالتفاف على الضغوط الأمريكية من جهة أخرى، يظهر جلياً أن خيارات إيران فى المقاومة والصمود تتجه أكثر نحو الانخفاض، وأن المفاوضات ولو بطريق غير مباشر كمرحلة أولى، عبر بوابة عُمان أو عواصم أوروبية أخرى أو الاثنتين معاً، ليس لها بديل آخر.
نقلًا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع