بالرغم من أن قرار العاهل الأردنى عبدالله الثانى إنهاء العمل بملحقى تأجير الأراضى والاستخدام الخاص لمصالح إسرائيلية فى كل من «الباقورة» و«الغمر»، جاء دون تمهيد إعلامى، إلا أن الكثيرين من القريبين من قمة السلطة الأردنية ألمحوا قبل فترة قصيرة إلى أن هاتين المنطقتين سوف تعودان للسيادة الأردنية بعد مرور المدة المقررة وهى خمسة وعشرين عاماً.
القرار الأردنى يمكن فهم أبعاده من زاويتين متداخلتين؛ الأولى طبيعة العلاقات الأردنية الإسرائيلية والكم الهائل من الشكوك والتعقيدات التى تحيط بها مع اقتراب إعلان ما يعرف إعلامياً بصفقة القرن الأمريكية. والثانية تتعلق بالظروف والملابسات التى أحاطت بتوقيع اتفاقية السلام بين الأردن وإسرائيل قبل ربع قرن. وكلتا الزاويتين تجسد حجم التحولات الدرامية التى تتفاعل بقوة فى الساحتين العربية والشرق أوسطية، والتى تبدو مرشحة لتطورات غير محسوبة على كافة الأصعدة.
فهناك الكثير مما يُقال عن طبيعة العلاقات الأردنية الإسرائيلية سياسياً واقتصادياً وتجارياً وأمنياً، وهى بمجملها تتأثر صعوداً وهبوطاً بما يجرى حول الأردن، لا سيما ما جرى فى سوريا فى السنوات السبع الماضية، حيث أدى الصراع السورى إلى انخفاض مستوى التعاملات بين كل من عمان ودمشق، بل إن عمان كانت مركزاً لعمليات عسكرية يقوم بها ما يعرف بالتحالف الدولى بقيادة واشنطن لمواجهة الإرهاب، وأيضاً للتأثير على حظوظ حكومة الأسد فى الاستمرار والبقاء. وفى تلك المرحلة التى بدأت فى الانزواء التدريجى مع التدخل العسكرى الروسى لصالح الدولة السورية، تصاعدت التبادلات التجارية والعلاقات الاقتصادية بين الأردن وإسرائيل، وكان السبب المباشر لذلك متمثلاً فى إغلاق المعابر الحدودية بين الأردن وسوريا وأشهرها معبر نصيب، ما أدى إلى انخفاض قدرة الأردن على تصدير منتجاته عبر الموانئ السورية على البحر المتوسط، ولظروف اضطرارية، وأيضاً لمحفزات إسرائيلية، فُتحت مسارات خاصة للشاحنات الأردنية لتصل إلى ميناء حيفا فى فلسطين المحتلة، ما رفع حجم مرور الشاحنات الأردنية إلى نحو 900 شاحنة شهرياً بعد أن كانت أقل من ثلث هذا العدد. وهو ما أسهم فى ارتفاع التبادلات التجارية بين البلدين إلى 500 مليون دولار سنوياً.
فى السياق ذاته، دخل البلدان فى مشروعات ذات طابع استراتيجى بعيد المدى فى مجالات شراء الغاز الإسرائيلى وإمدادات الكهرباء، ومشروع قناة البحرين الذى تم الاتفاق على تنفيذ مرحلته الأولى صيف 2015، ويتضمن ربط البحر الأحمر بالبحر الميت وسحب نحو 300 مليون متر مكعب من البحر الأحمر وضخها عبر أنابيب وروافع خاصة إلى البحر الميت، وبما يسمح بتحلية مياه البحر وإنشاء محطات لتوليد الكهرباء يتقاسمها البلدان بحصص معينة. والمرجح أن تستمر هذه المشروعات المائية باعتبارها تسد نقصاً هائلاً فى الموارد المائية والطاقة بالنسبة للأردن، الذى يُعد مائياً ثانى أفقر بلد فى العالم. أما فتح المعابر مع سوريا وتسهيل وصول الشاحنات الأردنية إلى الموانئ السورية، فمن شأنه أن يخفض مستويات التبادل التجارى بين الأردن وإسرائيل، وهو ما ستظهر نتائجه فى خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، لا سيما أن هناك اتجاهاً أردنياً لتجاوز مرحلة التدخل غير المباشر فى الصراع السورى، والتعامل مع الحكومة السورية الشرعية دون تحفظات.
حين النظر إلى قرار العاهل الأردنى بعدم تمديد الوضع الخاص للمصالح الإسرائيلية فى كل من «الباقورة» و«الغمر» لا يمكن تجاهل تأثير التطورات الحاصلة فى سوريا من جهة، ورغبة الأردن فى السيطرة على موارده الطبيعية من ناحية أخرى زراعياً ومائياً فى حدود الممكن وعبر الوسائل القانونية، فضلاً عن التخلص من بعض أعباء المعاهدة مع إسرائيل من ناحية ثالثة، ورابعاً التفاعل الإيجابى مع الرأى العام الأردنى الذى يرفض المعاهدة ويوجه انتقادات بالغة للكثير من بنودها، ومنها المادتان الواردتان فى الملحق الأول، والخاصتان باستمرار «المصالح الإسرائيلية» فى منطقتى «الباقورة» فى الأغوار الشمالية و«الغمرة»، وكلتاهما تخضع للسيادة الأردنية دون منازع، وهى أراضٍ زراعية جيدة، و«الغمرة» تحديداً تمتد نحو خمسة كيلومترات فى عمق الأرض الأردنية، ومساحتها أربعة آلاف فدان، يزرع منها الربع تقريباً، ويعتبرها الإسرائيليون امتداداً طبيعياً لمستوطنة «تسوفار»، التى أسستها إحدى وحدات النخبة بجيش الاحتلال عام 1968.
الحقيقة أن هاتين المادتين، وإن نصتا على اعتراف إسرائيل بسيادة الأردن عليهما، إلا أنهما تقيدان عملياً حدود تلك السيادة، إذ تفرضان حماية الأردن لما وصف بحقوق ملكية أراضٍ خاصة مملوكة إسرائيلية، ومنها حق الدخول والخروج دون قيود للمتصرفين فى تلك الملكيات ولزوارهم، وعدم تطبيق التشريعات الجمركية أو المتعلقة بالهجرة عليهم، واتخاذ كافة الإجراءات لحمايتهم دون مُضايقة أو إيذاء، مع السماح بدخول الشرطة الإسرائيلية باللباس الرسمى إلى تلك المنطقة لغرض التحقيق فى الجرائم أو الحوادث المتعلقة بهؤلاء المتصرفين بالأرض.
وفى ضوء تلك القيود، التى تجسد امتيازات كبيرة لهؤلاء المتصرفين التابعين للاحتلال، فإن إصرار الأردن على إنهاء العمل بالملحقين الخاصين بـ«الباقورة» و«الغمر» لا يعنى عودة السيادة الأردنية تلقائياً حين يحل موعد الإلغاء الرسمى، فسوف تكون هناك مفاوضات من أجل تحديد كيفية استرداد الأردن لكل مظاهر سيادته على تلك المنطقتين، كتطبيق القوانين الأردنية وقواعد الهجرة والضرائب وقيام الأمن الأردنى بالسيطرة الكاملة على حدود المنطقتين، وهو ما سيتطلب إرادة ودعماً شعبياً لفريق التفاوض الذى سيُحمل بهذه المهمة التاريخية.
إسرائيل من جانبها تعيش فى صدمة نسبية، والاتجاه الذى يفضله «نتنياهو» هو إعادة التفاوض من أجل مد الامتيازات الواردة فى الملحق لربع قرن آخر، أو على الأقل صياغة ملحق جديد يحافظ على الكم الأكبر من تلك الامتيازات لفترة أخرى.
هذه الاستراتيجية لا تجد تأييداً من بعض وزراء الحكومة، ومنهم وزير الزراعة والمياه، الذى هدد الأردن بخفض كميات المياه المسموح بها إلى النصف كنوع من العقاب، إذا ما أصر على موقفه. المتصرفون فى الأراضى الأردنية بدورهم يسعون إلى تشكيل قوة ضغط على الحكومة الإسرائيلية لكى ترفض أى تغيير فى أوضاعهم القانونية والامتيازات الهائلة التى تمتعوا بها طوال ربع القرن الماضى.
ما يحتاجه الأردن الآن يتمثل فى أمرين متكاملين؛ إرادة سياسية عليا بعدم التنازل عن إلغاء الملحقين واسترداد كافة الحقوق السيادية على المنطقتين. وثانياً دعم شعبى لا حدود له. وسوف يقوى الموقف الأردنى إن حصل أيضاً على دعم ومساندة عربية صريحة لا تعرف اللف والدوران. إنها معركة قانونية وسياسية كبرى فى الأفق، لن تخلو من ضغوط أمريكية صهيونية عاتية.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع