بقلم : د. حسن أبوطالب
كثيراً ما دعا أشقاؤنا الفلسطينيون فى غزة وفى الضفة إلى رفع الحصار من قبل الاحتلال الإسرائيلى، ومنهم من دعا مصر للقيام بإجراءات أحادية دون الرجوع إلى الأطر الحاكمة للقضية الفلسطينية. مصر من جانبها لديها رؤية بشأن القطاع ومصيره مرتبطة أساساً برؤيتها بالقضية الفلسطينية ككل، ومدخلها الرئيسى يتضمن أمرين أساسيين؛ الأول يتعلق بإتمام مصالحة شاملة بين فتح والسلطة الفلسطينية من جهة وبين حماس والفصائل غير المنضوية تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية من جهة أخرى، وبحيث تعود السلطة إلى القطاع وتتحمل مسئوليتها السياسية والوطنية عن شئونه حاضراً ومستقبلاً، مع إجراء إصلاحات فى هيكلية منظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم يُستعاد الترابط المصيرى بين الضفة والقطاع. أما الأمر الثانى فيتعلق بمنع أى عدوان إسرائيلى على القطاع يؤدى إلى خسائر بشرية ومادية وزيادة المعاناة لأبنائه. وكما يتطلب الأمر الأول التواصل الدائم والصبور مع جميع الأطراف الفلسطينية وإنجاز مصالحة شاملة ومقبولة من كل الأطراف، فإن الأمر الثانى يتطلب منطقياً التواصل مع دولة الاحتلال ومع جهات دولية كالأمم المتحدة ومبعوثها الخاص نيكولاى ميلادينوف، كذلك مع مسئولين أمريكيين.
الجمع بين المسارين تفرضه ضرورات سياسية وعملية وإنسانية فى آن واحد. مع التأكيد أن رؤية مصر هذه معلنة ومعروفة للكافة منذ التباعد والانقسام بين فتح وحماس، وكثيراً ما سعت مصر إلى مصالحة الطرفين بمشاركة جميع الفصائل الفلسطينية، وهناك العديد من اتفاقات المصالحة المعلنة التى لم تطبق كما ينبغى. ذلك كله معروف وموثق قبل ما بات يُعرف بصفقة القرن التى أعلن عنها الرئيس ترامب قبل عامين تقريباً، وما زالت فى صورة أفكار ومقترحات مرفوضة تماماً من الجانب الفلسطينى ومن جانب مصر أيضاً، والتى تصر دائماً على أن القضية الفلسطينية لها مسار واحد فقط وهو تطبيق مبدأ الأرض مقابل السلام وقيام دولة فلسطينية ذات سيادة وعاصمتها القدس. ولذلك فإن قول البعض من المحللين العرب والفلسطينيين من ذوى الغرض السيئ بأن جهود مصر الراهنة للتوصل إلى حالة تهدئة بين حركة حماس والفصائل الفلسطينية الموجودة فى القطاع وبمشاركة حركة فتح والسلطة الفلسطينية، وبين سلطات الاحتلال باعتباره يمهد إلى تمرير صفقة القرن غير المُعلنة بعد، ومن ثم تصفية القضية الفلسطينية حسب رؤيتهم، فإنه يمثل قمة الكذب والتلفيق السياسى المفضوح، فضلاً عما فيه من افتئات على الدور الفلسطينى ذاته. ويمتد الكذب ذاته إلى حماس وهى القوة الفعلية والأمر الواقع فى القطاع وإلى فصائل فلسطينية أخرى تشارك فى الاجتماعات الخاصة بتحديد رؤية شاملة للتهدئة ومتدرجة فى التطبيق وبحيث تخفف الحصار عن أبناء القطاع وتمهد لتحسين حياتهم لاحقاً عبر تحسين البنية الأساسية من خلال مشروعات تتم بواسطة السلطة وبإشراف أممى وتمويل دولى.
يُذكر هنا أن تصريحات قادة حماس وبعض الفصائل الموجودة فى غزة تؤكد أن أى اتفاق تهدئة متبادلة لا يرتبط بتنازلات سياسية أياً كانت، ولا يخص سوى الجوانب الإنسانية، وهو بشكل أو بآخر عملية بوساطة مصرية ودولية لتوظيف حالة المقاومة السلمية الفلسطينية المتمثلة فى مسيرات العودة بكل دلالاتها النضالية المرموقة، لتحقيق شىء ملموس يتعلق بحياة الناس اليومية. كما أن هذه العملية حال تحديد بنودها بدقة ستكون مرهونة فى التطبيق بقبول فلسطينى عام وليس فقط حماس أو فصائل محدودة. عملية الشمول هنا من حيث القبول أو الرفض تعنى اهتماماً خاصاً بمشاركة فتح والسلطة فى مثل هذا الأمر. وهو ما لن يتحقق إلا من خلال مصالحة فلسطينية شاملة، أكد عليها المفاوضون المصريون فى لقاءاتهم واتصالاتهم مع الجانب الإسرائيلى، كما أكد عليها المبعوث الأممى.
والمُعلن من قبل فتح والسلطة الفلسطينية أنه لا اتفاق تهدئة إلا عبر منظمة التحرير الفلسطينية، وإن حدث هذا الاتفاق فسوف تتوقف السلطة حسب ما صرح به مسئول مقرب من قيادة السلطة الفلسطينية عن تمويل غزة الشهرى بما قيمته 96 مليون دولار لدفع الرواتب وأعباء الخدمات العامة. ومعنى هذا الموقف أن السلطة التى تعلن ضرورة السيطرة على كل شىء فى غزة أولاً وفق شعار سلطة واحدة وقانون واحد وقوى أمنية واحدة، ودون بحث تشكيل حكومة وحدة وطنية، ودون تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها المختلفة كما هو منصوص عليه فى اتفاق المصالحة المعلن قبل أشهر محدودة، ودون النظر فى إعادة هيكلة القوى الأمنية ومراعاة التطورات التى جرت فى غزة طوال العقد الماضى، فإنه يعنى خلاصة واحدة وهى أن السلطة تهدد بمعاقبة جماعية لأبناء القطاع فى الوقت الذى تُبذل فيه جهود حثيثة مصرية وأممية لإحداث انفراجة إنسانية دون أى التزامات سياسية تؤثر على مستقبل القضية الفلسطينية وفق الرؤية العربية المعتمدة. فبدلاً من أن تجتهد السلطة فى تذليل عقبات الانتشار المؤسسى فى غزة، تبعث برسائل التهديد والوعيد.
موقف السلطة بهذا المعنى يشكل عقبة كبرى، لا تقل عن العقبات التى تضعها إسرائيل، وأبرزها استمرار ما تعتبره هدوءاً فلسطينياً تاماً بعيداً عن الحدود الفاصلة مع القطاع، مقابل بعض التسهيلات فى تمرير البضائع عبر معبر كرم أبوسالم وزيادة مساحة الصيد البحرى للصيادين الفلسطينيين إلى تسعة أميال. وتلك بدورها ما يعرف بمرحلة التهدئة الفورية، والتى قد تمهد لاحقاً حال نجاحها إلى تهدئة طويلة الأمد تبدأ بعام ويمكن أن تستمر أعواماً أخرى، وهى المرحلة التى تتطلب أولاً التوصل إلى صيغة للإفراج عن جثث جنود إسرائيليين موجودين لدى كتائب القسام. وتلك بدورها تواجه بعقبة الانقسام والمزايدات داخل الكابينت الإسرائيلى، حيث يطالب البعض بحرب ضروس تقتلع المقاومين فى غزة حسب أوهامهم، ويرفض البعض الآخر الإفراج عن أى أسرى فلسطينيين مقابل معرفة مصير الجثث أو الجنود الإسرائيليين لدى حماس. وكثير منهم يسعى إلى استغلال تلك القضية فى أى انتخابات كنيست مقبلة. والمتصور فى حال استمرار التهدئة المؤقتة لفترة أن يتم خلالها التفاوض غير المباشر وحل تلك المعضلة كجزء من تهدئة طويلة المدى نسبياً، تسهم لاحقاً فى تسهيل إقامة ميناء فى غزة ومطار بإشراف دولى قريب يخدم أبناء القطاع. والواضح أن هذه المشروعات التى ستمول دولياً، لن تجد النور إلا بعد تحقيق مصالحة فلسطينية شاملة، وهو ما تهتم به مصر وتوليه أولوية قصوى. ولذا يظل تخفيف الحصار وتحسين نسبى لظروف المعيشة لأبناء غزة هو الهدف القابل للتطبيق مرحلياً، شرط أن تصدق النوايا والأفعال.
نقلًا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع