بقلم : د. حسن أبوطالب
يوم الاثنين الماضى بدأ تطبيق المرحلة الثانية من العقوبات الأمريكية على إيران، التى تستهدف التأثير على القطاعات الحيوية للاقتصاد الإيرانى، وفى المقدمة قطاع النفط والبنوك والمعاملات المالية والتجارية بالعملة الأمريكية مع الغير، وتستهدف الولايات المتحدة أمرين أساسييْن؛ الأول أن تؤدى العقوبات إلى تراجع حاد فى الاقتصاد الإيرانى إلى حد الشلل ومن ثم تدهور مستوى معيشة المواطنين، الذين تفترض الولايات المتحدة أنهم سوف يتحركون ضد نظام الحكم وربما يتطور الأمر إلى مواجهات حادة تؤدى إلى تغيير النظام العام خلال مدة متوسطة، والثانى أن تؤدى العقوبات إلى تغيير قناعات السلطات الحاكمة ومن ثم تعمد إلى تغيير سياساتها الخارجية، وتقبل التفاوض مع الولايات المتحدة وصولاً إلى اتفاقات وتفاهمات جديدة بشأن العديد من القضايا الإقليمية، وأبرزها البرنامج النووى وبرنامج صناعة الصواريخ الباليستية، والدور الإيرانى فى سوريا واليمن ولبنان والعراق ومجمل منطقة الشرق الأوسط.
الهدفان الأمريكيان رغم اختلاف مسار كل منهما، فهما يدوران حول فكرة رئيسية وهى احتواء الدور الإيرانى وإعادة هيكلته بما يناسب المصالح الأمريكية الكبرى فى المنطقة سواء بالنسبة لأمن الخليج ودوله، أو بالنسبة لإسرائيل، أو لأزمات ملتهبة تلعب إيران فيها دوراً رئيسياً، كالأزمتين السورية واليمنية، وهو احتواء يمكن أن يحدث إما بتغيير النظام ومن ثم نشوء نظام جديد يتماهى مع الاستراتيجية الأمريكية بوجه عام، كما كان الأمر قبل ثورة الإمام الخومينى 1979 ونشأة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أو من خلال تراجع النظام الحالى تحت وطأة الضغوط الاقتصادية وبالتالى قبول الشروط الأمريكية الاثنى عشر التى أعلنها وزير الخارجية الأمريكى بومبيو، والتى تعنى فى جوهرها تغييراً شاملاً لكل مفردات السياسة الإيرانية الخارجية.
واقع الأمر من حق المخططين الأمريكيين أن يتخيلوا أو يتصوروا ما الذى يمكن أن تحدثه العقوبات الاقتصادية وهى الأقسى بالمعايير الأمريكية، والظاهر أن هناك طموحاً مُبالغاً فى التصورات الأمريكية الخاصة بالتأثير المحتمل، كما أن هناك قدراً من إهمال ما الذى يمكن أن تقوم به إيران وأصدقاؤها من أجل إفشال العقوبات الأمريكية وجعل تأثيراتها فى الحد الأدنى الذى لا يضير النظام الحاكم كثيراً، بل يمكن توظيفه من أجل بناء تحالفات وشراكات جديدة مع العديد من دول العالم التى يصعب عليها الاستجابة الكلية للعقوبات الأمريكية، وفى ضوء تفاعل هذين المتغيرين، المبالغة فى التصورات الأمريكية المعلنة والحماس الفائق حول تأثيراتها المنتظرة من جانب، وقدرة إيران على مقاومة تلك العقوبات من جانب آخر، يمكن الاستنتاج بأن هناك فرصة ليس فقط الدوران على العقوبات، بل والاستفادة منها أيضاً، وإن كان ذلك يتطلب شروطاً معينة بعضها ليس متوافراً بعد لدى الجانب الإيرانى.
ويذكر هنا أن جون بولتون، مستشار الرئيس الأمريكى ترامب للأمن القومى، وهو من المتعصبين الأشداء لسياسة العقوبات القاسية والأشد ضد إيران، يرى فى تلك العقوبات نوعاً من القتل الناعم المتدرج للسياسة الإيرانية، وأنها الوسيلة المثالية لإنهاء الدور الإيرانى فى عموم المنطقة، وأنه بعد فترة قصيرة لن تجد إيران مخرجاً سوى الانصياع للشروط الأمريكية، يحدث هذا فى الوقت الذى تتناثر فيه تقارير حول لقاءات قريبة جداً تمت فى إحدى الدول الخليجية بين وفدين إيرانى وأمريكى، تم فيها بحث فكرة العودة إلى المفاوضات المباشرة بين الطرفين لمعالجة البرنامج النووى الإيرانى وبرنامج صناعة الصواريخ الباليستية، وحسب تلك التقارير فقد اتفق على بعض أمور محدودة، ستتم مناقشتها فى كلا العاصمتين طهران وواشنطن، على أن يكون هناك لقاء آخر بعد حين، بهذا المعنى هناك مساران متداخلان، أحدهما العقوبات الاقتصادية والثانى البحث فى وسيلة تفضى إلى مفاوضات تنتهى إلى تفاهمات أو اتفاقات مرضية للطرفين، وإن حدث الأمر على هذا النحو، يكون فرض العقوبات مجرد أداة لإجبار إيران على التفاوض، وليس أداة من أجل تغيير النظام الإيرانى أو إسقاطه.
واقع الأمر أن الرهان الأمريكى على دفع الإيرانيين إلى التظاهر الصاخب وإلى إجبار النظام على الانكماش على الذات ليس مضموناً، فالإيرانيون اعتادوا العيش فى بيئة صعبة وضاغطة اقتصادياً ومليئة بالتحديات الأمنية منذ نشأة الجمهورية الإسلامية، كما اعتادوا على سطوة النظام وأجهزته الأمنية التى لا تتورع عن استخدام أقسى وسائل العنف لإسكات الأصوات الناقدة أو التحركات الشعبية العفوية، يُضاف إلى ذلك أن خبرة التحركات الشعبية الإيرانية أثبتت أنها تحركات عفوية يمكن السيطرة عليها، وهى تفتقر إلى قيادة منظمة ومن ثم فتأثيرها يظل محدوداً ولا يعدو أن يكون رسالة احتجاج أو تنبيه عنيف للقائمين على الحكم، وبالرغم من وجود جهات إيرانية معارضة فى الخارج، كتلك التى تقودها مريم رجوى انطلاقاً من فرنسا، فالثابت أن تأثيرها على الداخل محدود للغاية، وليس لديها وجود على الأراضى الإيرانية، وهو ما يضعف من تأثيرها، ويجعل الرهان عليها بلا معنى.
خبرة النظام الإيرانى تتعدى مسألة احتواء الاحتجاجات الشعبية إن وجدت، إذ تمتد تلك الخبرة إلى احتواء آثار العقوبات الأمريكية والدولية التى طبقت حتى العام 2015 حين تم توقيع الاتفاق الخاص بالبرنامج النووى الإيرانى مع الدول الخمس، الذى أنهى جزئياً سياسة العقوبات على إيران، وفى ضوء هذه الخبرة يمكن لإيران أن تجتهد فى إفشال العقوبات الأمريكية الأخيرة رغم قسوتها، وبالفعل فقد اتخذت عدة خطوات، منها السماح للقطاع الخاص بشراء النفط الإيرانى بسعر أقل من الأسعار العالمية، وطرحه من خلال البورصة، والتعامل التجارى مع العديد من الدول بنظام المقايضة، والتخلى عن التعامل بالدولار الأمريكى لصالح التعامل بالعملات المحلية، والتوسع فى تصدير النفط عبر سفن غير مرئية تعرف بالسفن الشبحية التى لا يمكن رصد تحركاتها عبر البحار والمحيطات، كذلك تهريب النفط عبر مسارات جبلية وعرة فى أفغانستان وباكستان، وغير ذلك من الإجراءات التى تؤدى إلى احتواء النسبة الأكبر من التأثيرات السلبية للعقوبات.
الأمريكيون أنفسهم أعطوا لإيران مجالاً للتخفف من تأثير العقوبات التى فرضوها، وهو ما تمثل فى السماح لثمانى دول اقتصادية تعد الأكبر فى استيراد النفط الإيرانى، كالصين التى تستورد وحدها 25 فى المائة من إجمالى النفط الإيرانى، والهند التى تستورد ما يقرب من 10 فى المائة من نفط إيران، إضافة إلى اليابان وكوريا الجنوبية ودول أوروبية، وجميعها تشترى ما نسبته 65% من نفط إيران، وهو ما يجعل الحديث عن وقف صناعة النفط الإيرانية مجرد أوهام فى أوهام.
نقلًا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع