بقلم: حسن أبوطالب
بغض النظر عن الطريقة التى ألغى بها الرئيس ترامب لقاء وصفه بالسرى مع ممثلين لحركة طالبان فى واشنطن، تظل الدلالة الكبرى وهى أن الوضع الأفغانى ليس مستعداً لسلام شكلى تُمحى فيه تغيرات اجتماعية وسياسية مهمة مقابل عودة إمارة أفغانستان الإسلامية بقيادة طالبان.
أيضاً أن الولايات المتحدة ليست مستعدة للخروج الكامل من أفغانستان، التى وصفها تقرير لجنة الكونجرس الأمريكى عن هجمات 11 سبتمبر الصادر مطلع 2004 بأنها خط رئيسى من خطوط حماية الأمن القومى الأمريكى، وزاد بأن أى تصرف فى كابول له وقعه وتأثيره المباشر على السياسة والمصالح الأمريكية. وبشكل أو بآخر يمكن اعتبار هذا التوصيف بمثابة إدراك عميق لكل مؤسسات الأمن القومى الأمريكى، لا سيما الاستخبارات والبنتاجون، وأيضاً لدى جون بولتون، مستشار الأمن القومى للرئيس ترامب.
المفاوضات الأمريكية مع طالبان التى استمرت لمدة عام، والتى اعتبرها الرئيس ترامب بأنها ضرورية للحد من الإنفاق المالى غير الضرورى ولجلب سلام يمنع سقوط ضحايا من الجنود الأمريكيين كما وعد ناخبيه من قبل، لم تكن مفاوضات موثوقاً بها من حيث إمكانية تحقيق هذين الهدفين تحديداً، وكانت مُحاطة بأكثر من عنصر للفشل، أبرزها أنها كانت ثنائية أمريكية/طالبانية، فى حين أن صنع السلام فى أفغانستان يتطلب مشاركة كل الأطراف الفاعلة فى معادلة السلطة والسلام فى البلاد، ولذا كان استبعاد حكومة كابول برئاسة أشرف غنى عن تفاصيل المفاوضات والمشاركة فيها بمثابة اعتراف مسبق بعدم إمكانية صنع تسوية سلمية شاملة، وهو ما حاول زلماى خليل زاده المفاوض الأمريكى علاجه بأن يربط انسحاب خمسة آلاف جندى أمريكى فى غضون 153 يوماً بثلاثة شروط، من بينها بدء مفاوضات بين طالبان وحكومة غنى، وأن تقبل طالبان بدور أمريكى لجنودها الباقين فى حدود ثمانية آلاف جندى لمحاربة التنظيمات الإرهابية وأبرزها «داعش» و«القاعدة»، وأن تقدم طالبان ضمانات لعدم التعرض للمصالح الأمريكية.
الشروط التى وضعها المفاوض الأمريكى لم تكن مقبولة من مفاوضى طالبان، وتم التحايل عليها بإصرار طالبان على أن لا مفاوضات مع حكومة غنى إلا بعد الانسحاب الأمريكى الكامل، وهو ما تضمن رفضاً مؤكداً لبقاء أى جندى أمريكى فى ظل عودة طالبان إلى الحكم، والأمران أكدا أن طالبان لن تفاوض حكومة غنى، كما أنها اشترطت ألا تجرى الانتخابات الرئاسية المقررة فى 28 سبتمبر الحالى، وهدفها نزع أى شرعية، وفقاً للدستور الأفغانى، عن غنى وحكومته، وبالتالى يصبح عدم التفاوض معه لاحقاً أمراً طبيعياً.
جاء ضعف المفاوض الأمريكى واضحاً منذ البداية حين لم يُصر على وقف عمليات طالبان الإرهابية بحق المواطنين الأفغان وبحق المسئولين وقوات الأمن الأفغانية ما دامت هناك مفاوضات من أجل سلام وتسوية شاملة، وحين استمر المفاوض الأمريكى فى جولاته التفاوضية فى ظل عنف طالبان، بدا للمفاوض الطالبانى أن الولايات المتحدة سوف تتعجل الانسحاب وأنها لا يعنيها بقاء حكومة غنى أو رحيلها غير مأسوف عليها، وأن الهم الأكبر لواشنطن هو خفض النفقات والرحيل وترك أفغانستان تحت سيطرة طالبان وحدها، وقد أغرى هذا الإدراك المُلا عبدالغنى برادر رئيس ما يعرف بالدائرة السياسية فى طالبان ورئيس وفد المفاوضات على أن يصر فى الوثيقة التى تم التوصل إليها مبدئياً بأن تكون وثيقة بين إمارة أفغانستان الإسلامية والحكومة الأمريكية، ويمثلها وزير الخارجية بومبيو، وهى النقطة التى أثارت الخارجية الأمريكية وبومبيو شخصياً حسب الإعلام الأمريكى، وكانت وراء رفض الوثيقة، والمبرر الرئيسى الذى استند إليه فى وقف المفاوضات حتى قبل أن يعلن ذلك الرئيس ترامب بسبب وقوع أحد الجنود الأمريكيين ضحية لعنف طالبان فى عملية تمت فى كابول يوم الخميس الماضى.
طبيعة المفاوضات وطريقة سيرها واستبعاد أطراف رئيسية منها، ولهفة الرئيس ترامب على الانسحاب، وضعف الوثيقة المبدئية التى تم التوصل إليها، وغياب ضمانات حقيقية بأن تقبل طالبان دوراً جديداً لها فى الحياة السياسية الأفغانية كشريك وليس المسيطر الأوحد، وعدم وضوح مستقبل بعثة الأمم المتحدة لمساندة أفغانستان، كلها أسباب معروفة ودفعت إلى الفشل دفعاً لا رد له.
يبدو السؤال الأهم الآن يتعلق بالغد القريب، غالباً ستتم الانتخابات الرئاسية نهاية الشهر الحالى، وسوف تمثل تحدياً لكل الأطراف، فالحكومة يهمها أن تتم فى معظم المناطق الأفغانية لتثبت شرعيتها، وطالبان سوف ترفع وتيرة هجماتها العنيفة وسوف تشهد العاصمة والمدن الكبرى محاولات للسيطرة على مبانيها الحيوية، وسيقع العديد من الضحايا، وسوف تجد الولايات المتحدة نفسها فى ورطة إما مزيد من الدعم للقوات الحكومية ومساعدتها لتبقى حجر زاوية فى استقرار الأوضاع على الأقل فى مناطق سيطرة الحكومة، أو تتجه إلى نوع من اللامبالاة وترك الأحداث تتجه إلى نهايتها دون تدخل، والأقرب أن تتحرك بحذر لدعم الحكومة، وقد يتغير الموقف الأمريكى إذا ما قامت طالبان بمهاجمة مواقع أمريكية وسقط ضحايا بين قتلى وجرحى.
طالبان من جهتها قد تصعد إعلامياً ضد الولايات المتحدة وتهدد بخسائر للقوات الأمريكية، كما ألمح إلى ذلك المتحدث باسم طالبان ذبيح الله، ولكن مع الالتزام الحذر فى مهاجمة أى أمريكى، مع تكثيف الهجمات ضد المواطنين الأبرياء وقوات الأمن الحكومية.
وقد يحدث هجوم طالبانى على موقع يوجد به أمريكيون كرسالة تحذير، ولكن الأقرب أن تتجنب طالبان مواجهة صريحة مع القوات الأمريكية، ومن غير المتصور أن تعيد قيادة طالبان تقييم الموقف وأن تُقدم على خطوة إيجابية تجاه حكومة أشرف غنى، فوفقاً لأدبياتها المنشورة فإنها لا تعطى أى اهتمام بحياة الأفغانيين، بل تعتقد أن كل من يقف مع الحكومة هو هدف مشروع ويجب استهدافه وقتله، لأنه يقف حسب رؤيتها ضد الشريعة، وتصر طالبان على أن هدفها الأعلى هو إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 18 عاماً، أى إمارة أفغانية تقودها طالبان منفردة وفق تفسيراتها للشريعة الإسلامية، وتُصر على حرية حركتها إزاء تنظيم «القاعدة» الذى يتوافق معها فكرياً وسياسياً. والأمر قد يختلف جزئياً بالنسبة «لداعش».
مجمل عناصر الصورة يجسد مأزقاً يواجه الجميع، وإعلان وزير الخارجية بومبيو بأن المفاوضات ميتة حالياً، وإذا قدمت طالبان الضمانات المطلوبة فيمكن العودة للمفاوضات لاحقاً، ليس سوى محاولة للضغط السياسى على قيادة طالبان، وإبقاء بعض الأمل قائماً بأن السلام ممكن إذا تنازل الجميع. لكن هذا التفاؤل المشروط يبدو صعباً جداً.