بقلم : د. حسن أبوطالب
حزمة الدعم التى أقرتها القمة الخليجية الأردنية الرباعية فى مكة المكرمة فى حدود 2٫5 مليار دولار قد تشكل مساندة عاجلة تخفف ضغوط اللحظة فى جانبها الاقتصادى، كما يجسد العرف العربى المشرقى بمساندة وبقاء النظم الملكية بما لا يؤثر على الخريطة السياسية العربية لنظم الحكم، ويُبعد إلى حد ما الهواجس التى انتشرت بقوة أثناء المظاهرات الاحتجاجية ضد قانون الضرائب الجديد بشأن اقتراب الأردن من التورط فى ربيع سياسى غير مأمون العواقب.
البعد الاقتصادى لا يمكن التهوين من شأنه، والمرجح أن الدعم الخليجى إضافة إلى بعض الدعم العاجل الذى أقرته مؤسسات أوروبية سوف يهدئ الوضع الأردنى نسبياً، لكنه لا ينهى تأثير عوامل أخرى لا سيما الإقليمية ما زالت تضغط بقوة على الأردن، وتأمل خريطة الصراعات التى تحيط بالمملكة كإحاطة السوار بالمعصم يؤكد أنها مليئة بالتحذيرت الكبرى، وأن الخيارات التى تطرح نفسها أمام المملكة كلها صعبة وبعضها خطير، وينطبق الأمر لفترة طويلة على الصراع العربى الإسرائيلى الذى شكل الضغط الأكبر وما زال على الأردن، ثم جاءت الضغوط من الجوار العربى لتشكل مصادر إضافية للمشكلات والتعقيدات التى بات على صانع القرار الأردنى أن يجد لها حلاً من خلال الالتفاف عليها بقدر الإمكان، وكان يساعده على هذا الالتفاف توجه أمريكى وأوروبى يرى ضرورة الحفاظ على استقرار المملكة الأردنية، نظراً لما تقوم به من أدوار إقليمية مهمة فى تخفيف الصراعات الإقليمية، واحتواء بعض المشكلات التى تتفجر بين الحين والآخر، فضلاً عن توجه عربى مماثل يرى فى الأردن دوراً مهماً ورمزية ملكية يجب الحفاظ عليها فى إطار مجمل الرمزيات العربية الأخرى.
هذه الصيغة التى تبلورت منذ السبعينات كانت السبب الرئيسى وراء تلك المفارقة التى عاش عليها الأردن، فهو من جانب قليل الموارد الطبيعية، ومع ذلك كان أهله يتمتعون بقدر من الاستقرار الاقتصادى، جزء منه ارتبط بالمساعدات الخارجية وفقاً للصيغة المشار إليها، وجزء آخر رجع إلى كون الأردن منذ السبعينات من القرن الماضى كان مصدراً للعمالة عالية المستوى، التى تحول بدورها عدة مليارات سنوياً للداخل أسهمت فى ارتفاع مستوى المعيشة بشكل عام.
بيد أن سنوات الثمانينات فى القرن الماضى ومع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية وما تلاها من عقوبات قاسية على العراق، بدأ الأردن يدخل فى عين العاصفة تدريجياً، حيث انقطعت صفقات النفط محدود الثمن والمؤجل الدفع، ثم جاء الشتاء السورى بكل تداعياته المؤلمة، فضلاً عن بروز تحالفات عربية لم تكن متصورة من قبل فرضت على السياسة الأردنية التزامات لم تستطع الوفاء بها، وأثرت بدورها على المكانة الأردنية إقليمياً، فقلت الموارد الخارجية وانقطعت التجارة مع دول مهمة وضُربت السياحة الأردنية وزاد عدد العاطلين من الشباب، ودخلت الحكومة منذ 2016 فى خطة تقشفية كبيرة لم يعتد عليها الأردنيون، تمثل حافزاً كبيراً للاحتجاج المجتمعى، كما حدث بالفعل فى الإضراب العام والمظاهرات والمطالبات بإقالة حكومة هانى الملقى والتراجع عن قرارات زيادة الضرائب على السلع والدخل ورفع أسعار المحروقات.
وهكذا فطوال العقود الأربعة الماضية تعرض الأردن إلى عملية استنزاف تدريجية وببطء، وكان أبرز معالمها زيادة أعداد اللاجئين العراقيين ثم السوريين فضلاً عن الفلسطينيين الذين تركوا الضفة الغربية بفعل ضغوط الاحتلال لغرض الإقامة والاستثمار وفرص العمل فى الأردن، وحسب الإحصاءات المعلنة فقد وصل عدد سكان الأردن والمقيمين على أراضيه إلى تسعة ملايين ونصف المليون نسمة، منهم نحو مليونى لاجئ سورى، ما يمثل عبئاً اقتصادياً واجتماعياً غير مسبوق على اقتصاد صغير.
الاستنزاف التدريجى للموارد المحدودة صاحبه عدة تغيرات إقليمية كبرى فى السنوات الست الماضية، شكل كل منها ضغطاً إضافياً هائلاً على المملكة ككل، أبرزها مواجهة الإرهاب الذى تعاظم فى الجوار العربى خاصة فى العراق وسوريا، والانخراط الإجبارى فى الحملة الدولية بقيادة الولايات المتحدة، وإغلاق الحدود مع كل من العراق وسوريا، وما ترتب عليه من انقطاع التجارة بين المملكة وهذين البلدين، كما شكلت تطورات السياسة الأمريكية فى عهد الرئيس ترامب تجاه الصراع الفلسطينى الإسرائيلى ضغطاً إضافياً على الأردن وعلى مصالحه العليا، وهناك من يراها تشكل ضغطاً على وجوده أصلاً، الانحياز الأمريكى كما ظهر فى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل شكل ضربة قاصمة بالنسبة لدور الأردن فى رعاية المقدسات الإسلامية والمسجد الأقصى، كما أن التضارب المقصود بشأن ما يسمى أمريكياً صفقة القرن يضع مصير المملكة على المحك، صحيح أن الصفقة المزعومة لا تخص الأردن بصورة مباشرة وليس هو المعنى وحده بمواجهتها، ولكن موقعه الجغرافى وطموح إسرائيل المدعوم بانحياز أمريكى غير مسبوق، يجعل الأردن يفكر فى مصيره على نحو جدى، كما يحمل مسئولية كبرى على مجمل الدول العربية الرئيسية.
هذه الملابسات الإقليمية والضغوط الإقليمية والدولية لا تنفصل عن الواقع الاقتصادى الذى يمر به الأردن الآن، فحجم الديون البالغ 34 مليار دولار، الذى يمثل 96 فى المائة من إجمالى الناتج القومى الأردنى، هو انعكاس مباشر لهذه الضغوط، ومبرر رئيسى لصانع القرار الأردنى فى اتخاذ سياسات صعبة كالتى طبقتها حكومة هانى الملقى بالاتفاق مع صندق النقد الدولى، التى لا يبدو أن حكومة عمر الرزاز حال تشكيلها قد تحيد عنها كثيراً، قد تؤجل بعضها وقد تخفف بعضها أو تطبقه تدريجياً بما يمكن قبوله شعبياً.
ونظراً لهذا التداخل بين موقع الأردن الجغرافى وارتباطه المصيرى بالصراعات الإقليمية المفتوحة، يبدو أن هناك ملامح دور إقليمى جديد للأردن، بحيث يقبل ما لا يمكن قبوله فى صفقة القرن المزعومة، ولعل التعبير المنسوب إلى الملك عبدالله فى لقاء مع قيادات وزارية وبرلمانية بأن لا مفر سوى الاعتماد على الذات وأن بلاده تدفع الآن ثمن مواقفها القومية لاسيما ما يتعلق بالقدس، يوضح كيف يفكر العاهل الأردنى فى الخروج من تلك العاصفة استعداداً لمواجهة عاصفة أكبر قد تتفجر بعد أسابيع قليلة، والاعتماد على الذات هنا يعنى تحمل الكثير من الصعاب، والتكيف مع دعم أقل، ومراقبة التحديات الإقليمية، والبحث عن مخرج ما، لا سيما مع سوريا وبما يعيد الحدود بين البلدين إلى حالتها الطبيعية بما فى ذلك التبادلات التجارية التى تعود بالفائدة على الطرفين معاً.
نقلًا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع