بقلم: حسن أبوطالب
بعد قيام إسرائيل بمهاجمة الضاحية الجنوبية لبيروت، المعقل الرئيسى لحزب الله، بطائرتين مسيرتين، وما تلاها من حديث لحسن نصر الله، زعيم الحزب، تكهن كثير من المراقبين بأن ثمة ضربة كبرى يجهز لها الحزب، وهدفها رد الاعتبار. نفس هؤلاء رأوا قيام الحزب بتوجيه صاروخ مضاد للمدرعات أصاب موقعاً عسكرياً إسرائيلياً شمال الأراضى المحتلة، بمثابة رد محدود القيمة وأقل بكثير مما أثارته كلمة «نصر الله» من توقعات. وهو ما رد عليه «نصر الله» بأن الحزب لا علاقة له بتوقعات المراقبين بل بما يمكن فعله. ومن الناحية المباشرة، يمكن اعتبار استهداف مدرعة إسرائيلية وإصابة من فيها، هو الرد الذى توعد به حسن نصر الله ضد الاعتداء الإسرائيلى. كما يمكن اعتبار الأمر مجرد خطوة أولى لرد أكثر قوة فى وقت لاحق. والفارق بين الأمرين يكمن فى الرسائل التى أراد الحزب أن يثبتها.
كان الشيخ نعيم قاسم، نائب رئيس حزب الله، قد أكد أن الحزب يدرس رداً على اعتداء الطائرتين المسيرتين ولكن لن يتطور الأمر إلى حرب. وفى الحوار الأول لـ«نصر الله» أشار إلى أن الرد سيكون من أى بقعة فى الحدود اللبنانية، وهدفه منع إسرائيل من تغيير المعادلات التى استقرت منذ العام 2006، وتمنع انتهاك السيادة اللبنانية. وهو ما أشار إليه فى لقائه بمناسبة بدء العام الهجرى، مساء الأحد الماضى، ومحدداً أن للدولة اللبنانية والمقاومة الحق فى إسقاط الطائرات الإسرائيلية المسيرة، وفقاً للظروف الميدانية.
مجمل ما يريده مسئولو حزب الله اللبنانى هو أن تستمر المعادلات وقواعد الاشتباك التى استقرت طوال الثلاثة عشر عاماً الماضية، وخلاصتها ألا تقوم إسرائيل بأى اعتداء مفتوح على لبنان، وفى الآن نفسه يلتزم الحزب بعدم القيام بأى عمليات داخل الأراضى المحتلة، مع ترك المجال مفتوحاً لبعض العمليات لجمع المعلومات من خلال طلعات الطائرات الإسرائيلية. وهى الصيغة التى تضمنها القرار الدولى 1701 الذى حدد إنهاء العدوان الإسرائيلى على لبنان 2006، وتراقبها قوة الأمم المتحدة «اليونيفيل». غير أن الجديد الذى أقره الحزب يتمثل فى استهداف الطائرات الإسرائيلية المسيرة حال دخولها المجال الجوى اللبنانى حين تتوافر القدرة الميدانية على ذلك.
ويبدو أن مجلس الدفاع الوطنى اللبنانى، برئاسة الرئيس عون، ومن خلال بيانه الذى أدان فيه الانتهاك الإسرائيلى لسيادة لبنان بواسطة الطائرتين المسيرتين، وتعهد فيه بالدفاع عن السيادة اللبنانية، يوافق ضمنياً على هذه الصيغة ذات الطابع الدفاعى الردعى، والتى بدورها لا تدعو إلى حرب أو اشتباك مفتوح، بل إلى تحرك دفاعى بالدرجة الأولى. وهو ما يمثل رسالة مزدوجة، شقها المباشر للشعب اللبنانى قوامها أن لا مجال للدعوة إلى حرب بل دفاع عن النفس، وشقها الآخر لإسرائيل والولايات المتحدة وكل الدول المعنية باستقرار الأوضاع فى لبنان وهو أن الأفضل للجميع أن تستمر المعادلات السابقة وفقاً للقرار الدولى 1701، وأن أى محاولة لكسر هذه المعادلات تتحمله إسرائيل بالدرجة الأولى.
استعادة الوضع السابق والتأكيد عليه يمثل عملياً قيداً مهماً يحد من الاندفاع نحو رد لا يمكن السيطرة على نتائجه وتداعياته. ومن الجانب الإسرائيلى يمكن أن نرجح أنه التقييم ذاته. فبالرغم من التصريحات العنترية التى تفوه بها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو معتبراً أن لبنان سيدفع الثمن فى كل الأحوال فى حال قام حزب الله بالرد الذى ألمح إليه حسن نصر الله وأكد عليه بيان مجلس الدفاع اللبنانى، إلا أن حسابات «نتنياهو» المرتبطة بالانتخابات المقررة بعد أسبوع واحد تدفعه إلى خفض مستوى أى عمل عسكرى محتمل ضد لبنان. وهو ما رأيناه عملياً فى قيام المدفعية الإسرائيلية بإطلاق 30 قذيفة على مناطق خالية فى محيط 3 قرى بالجنوب اللبنانى، نتجت عنها بعض حرائق محدودة فى الأحراش. والمفارقة هنا تظهر فى الإعلان الرسمى عن اتصال «نتنياهو» بمسئولين فى الإدارة الأمريكية والفرنسية طالباً تحركهم لمنع أى تصعيد مع لبنان. وهو إعلان لا يخلو من رسالة للبنان بأن القصف المدفعى ليس بعده شىء آخر، وأن لا نية لإسرائيل لشن حرب. ومعروف أن رئيس الوزراء اللبنانى، سعد الحريرى، تواصل أيضاً مع أطراف حكومية أمريكية وفرنسية، وربما روسية، حسب تلميحات السفير الروسى فى بيروت، من أجل احتواء أى تصعيد عسكرى إسرائيلى، ومنع تدهور الوضع الميدانى.
فى لبنان يقال إن ضغوطاً كثيفة من داخل لبنان ومن خارجه، مورست على قيادة حزب الله للقيام بعمل محدود يعيد بعض الاعتبار للحزب بعد تعرض أحد مقاره لضربة بطائرة إسرائيلية مسيرة. والمؤيدون للحزب نفوا ذلك. وسواء تمت مثل هذه الضغوط أم لم تحدث أصلاً فإن كل الأطراف تقريباً تدرك أن بدء شرارة حرب هو أسهل الأمور، أما وقفها فهو أصعبها. كما يدركون أن الحرب فى هذه الآونة تحديداً معرضة للتحول إلى حرب إقليمية كبرى، تتدخل فيها قوى نظامية وأخرى غير نظامية، كما أن الأسلحة المتوافرة لدى الأطراف جميعاً ستصل إلى مديات بعيدة، بعضها سيصل إلى عمق إسرائيل وإلى مراكزها الصناعية الكبرى شمالاً وجنوباً، وكذلك سيصل البعض الآخر إلى مساحة واسعة من لبنان وما بعد لبنان. وإذا كان من الممكن وضع قيود على الحكومات والقوى العسكرية النظامية والجيوش المعتمدة، فالأمر أقرب إلى المستحيل بالنسبة إلى القوى المسلحة غير النظامية التى يحتمل أن تشارك فى أى حرب مفتوحة، ما يجعل الفوضى المنتظرة مدمرة للجميع.
فى الحرب أيضاً، إذا ما وقعت والتى تسبق الانتخابات الإسرائيلية بأيام محدودة، من المستحيل السيطرة على ما تفرزه من مشاعر لدى الناخبين إذا سقط العديد من الضحايا المدنيين والعسكريين، وإن انفجرت الصواريخ الدقيقة فى المراكز المدنية والصناعية. وهو ما يتحسب له «نتنياهو»، الراغب بقوة فى الفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد، ما يتيح له رئاسة حكومة جديدة بأغلبية مريحة. وفى ضوء ما حدث فعلاً يوم الأحد الماضى يمكن لـ«نتنياهو» أن يدعى أمام الناخبين أنه أعطى درساً قاسياً للبنان ولحزب الله، لعل تلك الحجة تقنع الناخب بأن «نتنياهو» ليس فقط ملك إسرائيل بل حاميها الأوحد.
هذه البيئة الإسرائيلية، ومن قبل البيئة اللبنانية، وحولهما المعادلات الإقليمية، كما فى سوريا والعراق والخليج، تقود إلى مواجهات عسكرية مقيدة، ومحسوبة بدقة شديدة، ترضى الأطراف جميعاً، دون الوقوع فى مستنقع حرب لن يخرج منه أى طرف سالماً، بل مكسور مهما ادعى غير ذلك.