بقلم : د. حسن أبوطالب
الاستقبال الحافل الذى حظى به رئيس الوزراء الإثيوبى أبى أحمد، فى العاصمة الإريترية أسمرة يوم الأحد الماضى يفتح باباً كبيراً لتغيرات استراتيجية مهمة فى منطقة القرن الأفريقى ككل، وليس فقط فى علاقات البلدين التى استمرت متوترة وقريبة من الحرب الضروس طوال العقدين الماضيين. والتحليل الظاهرى للأشياء يربط بين التغير السياسى الكبير الذى تشهده إثيوبيا على يد رئيس وزرائها الجديد، والمعين من قبَل التحالف الحاكم «الجبهة الثورية الديمقراطية للشعب الإثيوبى»، وهو التحالف الذى يحتكر كل مقاعد البرلمان الإثيوبى، بعد أن أجبر طوعاً رئيس الوزراء السابق ديسالين، على الاستقالة، وفى الخلفية من ذلك مظاهرات استمرت متقطعة وعنيفة على مدى السنوات الثلاث الماضية، وعكست خللاً كبيراً فى بنية السلطة، وفى العلاقة مع العديد من القوميات الكبرى فى البلاد، وعلى رأسها الأورومو الأكثر عدداً، والأقل ثروة مقارنة بقومية التجراى الأقل عدداً والأكثر ثروة ونفوذاً وتغلغلاً فى بنية الدولة ومؤسساتها، لا سيما الجيش والقضاء، ناهيك عن الإعلام والثقافة.
التغير فى إثيوبيا لا يمكن إنكاره ولا يمكن الاستهانة بالدور الذى يقوم به الآن رئيس الوزراء أبى أحمد فى إعادة تشكيل مسارات السياسة الإثيوبية داخلياً وخارجياً. عملية الإصلاح تجرى بوتيرة مناسبة، الإفراج عن آلاف السجناء، الإطاحة بعدد من كبار رجال الجيش وأجهزة الأمن، خفض القيود على الاستثمار الخارجى والقطاع الخاص الإثيوبى، كلها مؤشرات مهمة على عملية تغيير تتصف بالشمول. يصل التغيير أيضاً وإن بضوابط فى علاقات إثيوبيا مع جيرانها الأساسيين، مثل السودان وإريتريا. والأخيرة تحديداً تمثل خطوة مهمة فى عملية تشكيل توازن القوى فى القرن الأفريقى ككل. الدوافع الإثيوبية يمكن تلخيصها فى ثلاثة دوافع رئيسية؛ الأول إنهاء حالة العداء والتوتر والحرب التى لا معنى لها، والقبول الكامل بالتسوية الخاصة بالحدود التى سبق للجنة الوساطة الأفريقية ولجنة التحكيم برعاية الأمم المتحدة أن توصلت إليها عام 2000 وأقرت بحق إريتريا فى مثلث بادمى، الذى يحتله الجيش الإثيوبى منذ حرب عام 1998. والثانى تطوير التعاون مع إريتريا اقتصادياً وتجارياً ومواجهة الوجود المتنامى لقوى غير أفريقية وفى المقدمة تركيا وإيران فى منطقة القرن الأفريقى، لا سيما جيبوتى، وثالثاً التجاوب مع الجهود الأمريكية الخاصة بمحاصرة النفوذ الإيرانى فى أفريقيا، وهو ما أشار إليه السفير الأمريكى فى أديس أبابا فى تصريحات صحفية نادرة، مؤكداً أن بلاده لعبت دوراً فى تشجيع الحوار بين أسمرة وأديس أبابا حتى قبل أن يأتى أبى أحمد كرئيس لوزراء إثيوبيا، وفى إقناع البلدين بأن تلك الخطوة تصب فى مصلحتهما المشتركة، وفى مصلحة الولايات المتحدة أيضاً.
إريتريا من جانبها لديها أسباب مهمة للتجاوب مع أى خطوة إثيوبية لتحسين العلاقات. المعروف أن أسمرة كانت تصر على التزام إثيوبيا الكامل بالانسحاب من مثلث بادمى والاعتراف بخط الحدود الذى توصلت إليه اللجنة الأفريقية برئاسة الجزائر قبل أن يدخل البلدان فى أى حوار يتعلق بتحسين العلاقات الثنائية. وحين أعلن «أبى أحمد» فى بيانه الأول أمام البرلمان الإثيوبى، أبريل الماضى، أولوية إصلاح العلاقة مع أسمرة والالتزام بالخطة الأفريقية الأممية، أصبحت الكرة فى الملعب الإريترى، وبالفعل تم تلقف الأمر بجدية، وبدأت الاتصالات تأخذ منحى جدياً، مهدت لاتفاقات لإعادة الاتصالات والعلاقات الدبلوماسية وفتح الحدود والطيران والتبادل التجارى، وأن تستخدم إثيوبيا ميناءى مصوع وعصب الإريتريين وكلاهما مُطل على البحر الأحمر، وبما يسمح لأديس أبابا بمنافذ بحرية أقل كلفة من استخدام مرافئ جيبوتى الأعلى كلفة.
فتح المرافئ الإريترية أمام إثيوبيا يتيح للأخيرة فرصاً أكبر للمشاركة فى جهود الأمن الإقليمى والدولى فى جنوب البحر الأحمر، وفى مواجهة النفوذين التركى والإيرانى المتزايد فى القرن الأفريقى. بعض المصادر الصحفية الإثيوبية أشارت إلى قناعة «أبى أحمد» بأهمية أن يكون لإثيوبيا أسطول بحرى، وهو أمر يصعب بناؤه فى حالة عدم توافر مرافئ مفتوحة بلا قيود أمام حركة هذا الأسطول. إذا توافر هذا الشرط فى الموانئ الإريترية يمكن لإثيوبيا أن تنشئ هذا الأسطول البحرى. وهنا يتغير مفهوم توازن القوى فى القرن الأفريقى.
التقارب مع أديس أبابا يحقق لإريتريا بعضاً من المكاسب الاستراتيجية المهمة، إلى جانب عودة «بادمى» لسلطة الدولة الإريترية. تصريحات الرئيس أسياس أفورقى فى العامين الأخيرين، خاصة أثناء اشتعال الإضرابات الإثيوبية، توضح إلى حد كبير انشغال أسمرة باستقرار إثيوبيا واعتبار ذلك شرطاً جوهرياً لأمن إريتريا ذاتها وأمن المنطقة، وهو انشغال موصول بالرؤية السائدة لدى حزب الجبهة الشعبية الحاكم بأهمية أن يكون للتيجراى المسيحيين دور رئيسى فى تحديد مستقبل إثيوبيا، وهم الأقرب للتيجراى فى إريتريا، والذين تشاركوا معاً فى سنوات الكفاح ضد نظام هيلا سيلاسى، حتى إن بعض التفسيرات انتهت إلى أن اهتمام أسمرة بموضوع الهوية التيجرانية المسيحية ربما يعكس قناعة بأن المستقبل الحقيقى لإريتريا يرتبط بالوحدة مع تيجرانيى إثيوبيا، فى مواجهة صعود القوميات المسلمة فى الإقليم.
القلق الإريترى من المد الإسلامى الراديكالى والعنيف فى القرن الأفريقى، ارتبط أيضاً بالقلق من تمدد النفوذ التركى، والأهداف التى يسعى إليها الأتراك فى الصومال والسودان وجيبوتى. وكثيراً ما عبر الرئيس أفورقى عن رفضه لهذا التمدد التركى، مؤكداً استنكاره لما سماه بالفلسفة المتنامية لفكرة الإمبراطورية العثمانية التى تحرك هذا التمدد العسكرى المثير. ويطول القلق الإريترى أيضاً بعض التحركات الإيرانية فى المنطقة، وفى هذا تتوافق رؤية أسمرة مع رؤية كل من المملكة السعودية والإمارات، اللتين تعملان على محاصرة هذه التحركات الإيرانية، وبما يتناغم مع الاستراتيجية الأمريكية فى إنهاك إيران ودفعها إلى التخلى عن استراتيجية التمدد المذهبى الشيعى فكرياً وعسكرياً.
هذه الملابسات مجتمعة وإن كانت تسهم فى تسهيل بدء مرحلة جديدة فى العلاقات الإريترية الإثيوبية، فإنها تكشف فى الآن ذاته عن وجود عملية هندسة استراتيجية تشارك فيها أكثر من دولة فى الإقليم ومن خارجه أيضاً لبلورة خريطة قوى جديدة فى القرن الأفريقى وفى جنوب البحر الأحمر. والمنطقتان معاً تهمان مصر ومصالحها العليا، وهو ما يتطلب متابعة دقيقة لما يحدث ولما قد يحدث سواء سلباً أو إيجاباً، لا سيما أن هناك فى النخبة الإثيوبية من يعارض أى انفتاح على إريتريا للطريقة التى يرونها متعجلة والتى يدير بها رئيس الوزراء أبى أحمد الشأن الإثيوبى فى الداخل والخارج معاً.
نقلًا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع