بقلم : د. حسن أبوطالب
الإشارات الواردة من إدارة الرئيس ترامب تؤكد أن ما يُزعم أنه صفقة القرن على وشك إعلان تفاصيلها، سواء برضاء الرئيس الفلسطينى محمود عباس أو بغير رضاه. هذا ما قاله صراحة «جاريد كوشنر»، صهر الرئيس «ترامب»، فى حوار نشرته جريدة فلسطينية محلية قبل أربعة أيام. ورغم ما فى هذا التصريح من استعلاء، إلا أنه يقر علناً بالفشل فى التواصل مع الرئيس الفلسطينى، وبصلابة موقف الأخير. الهدف من تلك الإشارات الأمريكية ليس فقط إحراج الرئيس عباس والتمهيد لإثارة الضغوط عليه، وإظهاره بمظهر المسئول الذى لا يهتم بمصير شعبه، والذى يرفض الفرص الهائلة التى تعرضها الولايات المتحدة بكل ما لديها من جبروت سياسى وعسكرى، وإنما أيضاً إحراج الدول العربية الرئيسية المعنية بفلسطين وشعبها، وفى المقدمة مصر والسعودية والأردن والإمارات. وهى الدول الرئيسية فى أى تحول جوهرى يتعلق بالقضية الفلسطينية، والتى بدونها لن تستطيع أمريكا أو غيرها أن تمرر أى فكرة أو صفقة أو حل أو تسوية أو أى شىء ما تحت أى صفة كانت. وهو تمرير لن يتم إلا برضاء الفلسطينيين أولاً وأخيراً، سواء كان رئيسهم محمود عباس أو أى شخص آخر.
مصر بدورها، وفى لقاء الرئيس السيسى مع جاريد كوشنر وجرينبلات فى الأسبوع الماضى، أوضحت الموقف المصرى العربى دون أى رتوش، فلا حديث عن دولة فى غزة وامتداد جغرافى لها فى سيناء، فالأخيرة أرض مصرية أولاً وأخيراً غير قابلة للتنازل أو البيع أو المساومة، والحل الوحيد المقبول هو دولتان متجاورتان من خلال مفاوضات ذات سقف زمنى محدد، والقدس عاصمة للدولة الفلسطينية إعمالاً للمبادرة العربية التى لا يوجد غيرها ولن يوجد غيرها. الموقف نفسه أكده الملك عبدالله أمام جاريد كوشنر ورفاقه فى عمان. الإشارات الواردة من الرياض وأبوظبى تصب فى الرؤية نفسها. فلا أحد يجرؤ على التنازل عن القدس أو حق الشعب الفلسطينى فى دولته المستقلة غير المقيدة بأى شىء سوى ميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية التى تنطبق على العالم بأسره.
الحرص المصرى والعربى على أن تكون هناك مفاوضات وفق المرجعيات الدولية والعربية ومبدأ الأرض مقابل السلام لا يعنى إطلاقاً التنازل المسبق عن القدس وعن الحقوق الفلسطينية فى الأرض والعودة والاستقلال. نحن هنا نتحدث عن آلية تطبيق المرجعيات الدولية، وليس القبول بأفكار أمريكية إسرائيلية صهيونية مسمومة. الخلط الذى يُبدع فيه البعض بين الآليات وبين الأهداف الاستراتيجية هدفه تأجيج المشاعر وصبّ الزيت على النار لا أكثر ولا أقل، والمستفيد الوحيد هو الاحتلال.
هذه أمور واضحة وضوح الشمس، لكن فى السياسة الدولية بتعقيداتها وتضاربها يوجد من يحوّر الأمور ويعكس الاتجاهات ويربّع الدوائر لحسابات مشوشة خاصة به وليس لحسابات تتعلق بالحقوق وأصول المواقف، ففى الصحافة الإسرائيلية تجد الشىء ونقيضه بشأن الموقف المصرى، هناك كـ«هآرتس» من يؤكد أن مصر هى بوابة صفقة القرن، وأنها قضت على أحلام ترامب وكوشنر وفقاً لما جرى فى اللقاء الأخير فى القاهرة وما أصر عليه الملك عبدالله فى عمان، وهناك أيضاً من يكذب كذباً صريحاً كـ«إسرائيل هيوم» ويدّعى أن مصر والأردن توافقان على نشر «صفقة القرن» الأمريكية المشبوهة، وإنهما سوف تضغطان على الرئيس عباس لقبول الصفقة بعد منحه ضمانات سياسية وشخصية، بل إن مصر سوف تعطى الأولوية لتحسين حياة الفلسطينيين فى غزة منعاً لانفجار الأوضاع فيها. مثل هذه التقارير المكذوبة تريد التشويش بأن القاهرة تنظر فقط إلى موضع قدمها، وليذهب الفلسطينيون إلى الجحيم، فى الوقت نفسه نرى جنرالاً إسرائيلياً متقاعداً يتحدث علناً عن اهتمام مصر بإتمام المصالحة الفلسطينية، ولأنها خطوة لدفع المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، ولكنه يكذب أيضاً بالقول إن مصر ستوافق على منح 720 كيلومتراً مربعاً من سيناء لدولة غزة.
خلق التناقضات بين العرب وبعضهم أسلوب قديم جديد، اختلاق الأكاذيب مهنة صهيونية بامتياز، تحركها مصالح كبرى، هدفها الرئيسى إثارة الشكوك لدى الرأى العام المصرى والعربى، وممارسة ضغوط لعل وعسى تقبل القاهرة ثم عمان ثم عواصم أخرى بما تريده أمريكا وإسرائيل، بل وتمريره على حساب الحقوق التاريخية والقومية والعروبية. عنصر الزمن هنا مهم ويجب ملاحظته، إذ نقترب بعد أيام من ذكرى عزيزة على كل مصرى شارك فى حماية وطنه والحفاظ على هويته الوسطية، وهى الذكرى نفسها التى تمثل كابوساً مرعباً لجماعة إرهابية حاولت خطف مصر وإلقائها ذليلة فى أيدى سلطنة تاريخية متوهمة ومشاريع استعمارية كبرى متخيلة. بعض ما يُكتب فى صحافة عالمية بلا ضمير مهنى ما زال يصف «30 يونيو» بكونها انقلاباً، وإنكار كل ما فعله الشعب من تضحيات وفعاليات قضت على حكم الجماعة ومرشدها وسلطانها الموهوم. الضغوط فى المرحلة المقبلة والتشويه سيكون على أشده.
فى بعض ما يُكتب عن مصر نلاحظ تركيزاً متعمداً على وصف اهتمام مصر بالشأن الإنسانى فى غزة باعتباره بيعاً للقضية وتماشياً مع الضغوط والأفكار الأمريكية الجزئية بإنشاء مناطق صناعية بأموال عربية يعمل فيها فلسطينيو غزة، ومن ثم تجاوز الطابع القومى والوطنى للحقوق الفلسطينية. الصحافة الإسرائيلية نفسها هى التى نشرت على لسان «كوشنر» بعد لقائه مع الرئيس السيسى بأنه خرج مصدوماً مما سمعه من السيسى. فلو كان سمع ما يطيب له، فهل كان يشعر بالصدمة أم بالفرحة؟ مثل هذه التناقضات وغيرها كثير، وللأسف بعضها ينطلى على إعلام عربى يصدر من لندن، يعتبر أن ما يُقال فى الصحف الإسرائيلية وشبيهاتها الإنجليزية والأمريكية حقائق دامغة تدين مصر ومواقفها العروبية. بعض التأمل والتفكير العقلانى يفضح الجميع، بيد أن العقل الرشيد يبدو غائباً لدى كثيرين.
ربما نعتب على وسائل إعلامنا المصرية التى لا تفضح هؤلاء ولا تنشر الأمور بتفاصيلها، ولا تناقش تلك الترهات بعقلانية، ولا تخاطب الرأى العام المصرى والعربى بكل الحقائق والتفاصيل. غياب الرؤية المصرية يؤدى إلى ضبابية فى المواقف يستفيد منها الآخرون، ونتضرر منها نحن. ستظل القضية الفلسطينية بكامل تفاصيلها وكامل تعرجاتها قضية أمن قومى مصرى وعربى بامتياز. عروبة القدس وفلسطينيتها وإسلاميتها ومسيحيتها الشرقية ليست مجالات للمساومة أو التنازل، تلك قناعات تاريخية ودينية وقومية لا يمكن محوها لدى الشعوب، ولا يجرؤ أحد على مواجهتها. كل القادة العرب يؤمنون بتلك الأبعاد الراسخة، ومن لديه غير ذلك فليثبت.
نقلًا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع