بقلم : د. حسن أبوطالب
من غرائب الحياة أنها أحياناً تجمع بين متناقضات وكأنها شىء طبيعى علينا تقبله، من بين هذه المتناقضات تعبير بات يستخدم كثيراً هذه الأيام وهو الحرب التجارية، تأمل التعبير تجد أنه يجمع بين أمرين يفترض أنهما لا يجتمعان معاً، فالحرب تكون بين أعداء ألداء، أما التجارة فهى لا تحدث إلا بين جهات أو دول أو شركات بينها علاقات طبيعية تتسم بالانفتاح المتبادل ومراعاة متبادلة للمصالح، على هذا النحو فإن الحرب التجارية هى نوع من الصراع الحاد بين دول لديها علاقات طبيعية بالمعنى العام، لكن إحداها وهى فى حالتنا الراهنة الولايات المتحدة فى ظل الرئيس ترامب قررت أن تمارس نوعاً من السلطة الإكراهية على حركة التجارة مع أصدقائها وحلفائها، سلطة إكراهية تتجاوز كل ما هو متفق عليه وتدفعها إلى وضع قيود جمركية وتعريفات جديدة على أنواع معينة من السلع بغية دفع منتجيها إما إلى خفض إنتاجهم من هذه السلع، أو تقليل الصادر منها إلى الأسواق الأمريكية، أو الاستثمار فى الداخل الأمريكى لإنتاج هذه السلعة بعيداً عن التعرض لتعريفات جمركية عادية أو حمائية تؤدى فى النهاية إلى قدر من الخسارة قد لا تحتمله الصناعة نفسها فى بلدانها الأم، على هذا النحو فالحرب هنا هى بين شركاء وقوامها القوانين والقرارات وليست الأسلحة أو الذخائر.
حين يفرض الرئيس ترامب هذه التعريفات الجديدة ذات الطابع الحمائى يكون من وجهة نظره قد حقق أحد وعوده التى وعدها لناخبيه، باختصار سيفرض جمارك عالية على الواردات الخارجية وربما يخفض قليلاً نسبة الجمارك على الصادرات الأمريكية، وبما يسمح لها أن تكون منافسة أكثر فى الأسواق الخارجية، الفكرة على هذا النحو تفترض أن كل سلعة تنتج فى الولايات المتحدة تكون تامة الصنع فى الداخل الأمريكى ولا تحصل على أى مكون من مكوناتها من الخارج، وهو أمر غير واقعى، فأكثر من 90 فى المائة من المنتجات فى أى مجال صناعى تتضمن مكونات من أكثر من دولة. فعلى سبيل المثال فإن صناعة الطائرات المدنية أو الحربية الأمريكية تحصل على نسبة مكونات تصل إلى 70 فى المائة من أكثر من 30 ألف مورد عبر العالم، بداية من المسامير ذات المواصفات الخاصة، ومروراً بالدوائر الإلكترونية، ونهاية بألواح الألمونيوم المُشكلة تشكيلاً خاصاً يناسب الصناعة المعنية، وينطبق الأمر ذاته على كافة الصناعات تقريباً، وهو ما يعرف بسلسلة التصنيع التراكمية، كذلك فإن صناعة الهواتف المحمولة لكبرى الشركات الأمريكية لا تصنع فى الداخل الأمريكى بل فى الصين وكوريا وفيتنام وغيرها، فهل يتحمل المستهلك الأمريكى ضرائب عالية على مثل تلك المنتجات؟
ما يطرحه الرئيس ترامب أثار ردود فعل غاضبة وتحذيرات وكذلك تهديدات، كافة الدول التى تستفيد من التجارة مع الولايات المتحدة فى مجالى الصلب والألمونيوم تدرس كيف سيكون ردها، الجميع يتخوف من النتائج المحتملة على صناعات لديه توظف ملايين من العمال وقد تواجه خطر الانكماش، ردود الفعل حتى الآن تبدو وكأنها تريد من السيد ترامب أن يعيد النظر فى قراراته المنتظرة وكفا الجميع شر القتال، لكن الرئيس الأمريكى يرى الأمر فرصة لتحقيق مزيد من الانتصارات فى أى حرب تجارية سيكون البادئ فيها، فقد هدد صناعة السيارات الأوروبية بأن يفرض عليها ضرائب أعلى إذا قامت الدول الأوروبية باتخاذ إجراءات حمائية ضد قرار فرض تعريفات جمركية على الصلب والألمونيوم التى ترد من تلك البلدان، نلاحظ هنا أن الفعل ورد الفعل يأخذ منحى تصاعدياً، وتلك هى سمات الأزمة فى مراحلها الأولى، وبعدها يحدث الانفجار، وغالباً سيكون انفجاراً ينال من الاقتصاد العالمى ككل، وستكون له تأثيراته على الاقتصادات الناشئة والمستقرة على السواء، لكن آثاره متوسطة المدى المرجحة ستصب فى إعادة النظر فى النظام الاقتصادى العالمى والبحث عن نظام اقتصادى عالمى جديد. حرية التجارة هنا التى سعت إليها الولايات المتحدة عبر العقود الأربعة الماضية لتصبح المعيار الرئيسى فى الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمى باتت محل تساؤل كبير.
نلاحظ أيضاً أن الأزمة ما زالت بين دول صناعية كبرى طالما شكلت فيما بينها القوة الدافعة الأكبر لما يعرف بالعولمة فى جانبها الاقتصادى، الذى يختصر فى فتح الحدود أمام السلع والخدمات بدون قيود أو بأقل قيود ممكنة، الأسواق هنا ليست هى الأسواق المحلية التى تنشأ فيها الصناعات الأوروبية أو الأمريكية أو الصينية أو الهندية، إنها أسواق كافة البلدان الأخرى، تلك الفكرة ستُضرب فى الصميم مع صدور أول قرار أمريكى بوضع قيود جمركية على صادرات الصلب والألمونيوم، ثم باقى القرارات التى قد يتخذها الصينيون والهنود والأوروبيون كل على حدة أو مجتمعين معاً، التقسيم العالمى للصناعة الذى ارتبط بالعولمة سيصبح قيد التغيير والتحول، بعض الدول تتصور أنها يمكن أن تخرج من القيود الأمريكية المنتظرة، كأستراليا التى ترى أن بالإمكان أن تعفى صادراتها إلى الأسواق الأمريكية من أى تعريفات جديدة، دون أن توضح ما هو السبب الذى يمكن أن يدفع واشنطن فى عهد ترامب أن تفعل ذلك.
لسنوات طويلة مضت ارتفعت أصوات كثيرة بضرورة إعادة النظر فى المظالم أو الأعباء التى حملتها العولمة الاقتصادية على الاقتصادات النامية أو الناشئة، كان الهدف هو نظام اقتصادى أكثر عدالة وأكثر فرصاً للتنمية لمن حرموا منها فى السنوات الماضية، مثل هذه الدعوة لم تعد ملائمة للتطورات الجارية أو تلك المنتظرة، الهدف الأكبر الآن هو البحث عن استقرار الأسواق واستقرار الصناعات وتخفيف الضغوط واستقرار التجارة العالمية وفق الضوابط التى استقرت عليها منظمة التجارة العالمية، على الاقتصادات الناشئة ومن بينها مصر ألا تنظر إلى ما يجرى فى قمة النظام الاقتصادى العالمى باعتباره شأناً خاصاً بهم وليس لنا ناقة ولا جمل فيما يحدث هناك، مثل هذا التفكير إن تورطت فيه تلك الاقتصادات التى تصبو أن تنتج أكثر وأن تصدر أكثر وأن تجد أسواقاً أكثر، سيكون ضاراً بها، التمسك بمبادئ تجارة حرة شفافة تراعى الفوارق الكبرى بين الاقتصادات الكبيرة الحجم إنتاجاً وتصديراً بين تلك التى تخطو خطواتها الأولى هو الأمر العاصم من الانزلاق إلى فجوة لا قرار لها، وفى كل الأحوال فإن ما يفعله الرئيس ترامب ليس بنموذج يُحتذى به، والانتصار الذى يعد به لن يكون ولو بعد 100 عام.
نقلًا عن الوطن القاهرية