بقلم : د. حسن أبوطالب
اعتاد باحثو العلاقات الدولية استخدام مصطلح «النظام الدولى الجديد» للإشارة إلى حالة التغير فى علاقات القوة بين القوى الكبرى الرئيسية والقضايا والمشكلات التى تشكل المنظومة العالمية ككل. يعود أصل المصطلح إلى الخطاب الشهير الذى ألقاه الرئيس بوش الأب فى مارس 1990 فى الكونجرس حين أعلن آنذاك أن تحرير الكويت يمثل نقطة بداية لنشوء نظام دولى جديد، تقود فيه الولايات المتحدة الشئون الدولية بلا منازع. ارتبط الأمر أيضاً بتداعيات انهيار الاتحاد السوفيتى ودخول الدول التى كانت مرتبطة به إلى مرحلة اللايقين والبحث عن الذات.
بالفعل مارست الولايات المتحدة، فى هذه المرحلة المبكرة فى تسعينات القرن الماضى، دوراً قيادياً منفرداً، ومن ورائها تحالفات مختلفة المستويات. أبرزها حلف الناتو الذى استمر قوياً وازداد توسعه ناحية الشرق مستهدفاً محاصرة روسيا، والعلاقات الخاصة مع الاتحاد الأوروبى، والانتشار العسكرى فى كل القارات دون استثناء، وعلاقات تحالفية مع عدد كبير جداً من دول العالم. بهذا المعنى فإن قيادة الولايات المتحدة للعالم لم تكن راجعة لقدراتها الذاتية العسكرية أو الاقتصادية وحسب، بل لأنها استندت واعتمدت على التحالف بأشكاله ومستوياته المختلفة والدعم السياسى والمعنوى من قبَل عدد كبير من دول العالم.
الآن تبدو هذه التحالفات الأمريكية، حتى مع أقرب الدول والأصدقاء والحلفاء، فى حالة توتر تنبئ عن تحولات جذرية ستؤثر على طبيعة النظام الدولى ككل، بما فى ذلك الدور القيادى الأمريكى. والفضل هنا لسياسة الرئيس ترامب وشعاره الشهير «أمريكا أولاً»، والذى يعنى أن تحقق الولايات المتحدة كامل ما تراه مصالحها الخاصة للغاية، حتى ولو على حساب مصالح أصدقائها المقربين جداً. الأمثلة هنا كثيرة وتزداد كثرة يوماً بعد آخر. البداية ظهرت فى مطالب أمريكا لأعضاء حلف الناتو، المفترض أنهم أقرب حلفاء أمريكا والأكثر ضمانة لقيادتها العالمية، حيث طالب «ترامب» بأن ترفع الدول الأعضاء نسبة إسهامها المالى فى مخصصات الحلف بنسبة لا تقل عن 2% من إجمالى ناتجها القومى، مبرراً ذلك بأن زمن حماية أمريكا لحلفائها، سواء فى الناتو أو فى غيره من الارتباطات المؤسسية أو التاريخية، قد ولى، فمن يريد حماية أمريكا عليه أن يدفع مقابل تلك الحماية. أعضاء «الناتو» يرون أن المطلب الأمريكى غير منطقى وغير قابل للتحقق. البعض منهم، كفرنسا وألمانيا، رفض الأمر صراحة، ودول أوروبية أخرى لم تستجب للطلب الأمريكى فى صمت ودون ضجة. ويسود تفكير أوروبى، تقوده باريس وبرلين، بأن على أوروبا أن تبحث لنفسها عن منظومة حماية ذاتية بدون مشاركة الولايات المتحدة فيها. فكرة الاعتماد على الذات فى شئون الأمن الأوروبى إذا نجحت فى تأسيس هيكل ذاتى من شأنها أن تؤثر على الدور الذى يقوم به الناتو، وبالتالى سوف تؤثر بشكل أو بآخر على الدور القيادى الأمريكى عالمياً. تشتت جهود الأمن عبر الأطلسى سوف يؤدى بدوره إلى تغيير مهم فى هيكل ميزان القوى العالمى خصماً من القوة الأمريكية وإضافة إلى القوة بمعناها العام لكل من روسيا والصين وباقى القوى الصاعدة التى تناهض، أو على الأقل لا ترضى عن، الأسلوب الأمريكى فى قيادة الشئون الدولية.
تصدع حلف الناتو، وإن كان يحدث ببطء، فإن علاقات التحالف الأخرى بين أمريكا وأقرب حلفائها دخلت بالفعل طور التصدع البيّن. الأبرز هنا فرض الرسوم الجمركية على واردات الحديد والصلب والألومنيوم الواردة من كندا وأوروبا والصين وتركيا وأستراليا، وكل هؤلاء يُفترض أنهم حلفاء فيما عدا الصين التى يُنظر إليها أمريكياً باعتبارها عدواً محتملاً وتهديداً وجودياً على المدى البعيد. وهؤلاء بدورهم فرضوا رسوماً جمركية مضادة على قائمة من السلع الأمريكية. آخر من فعل ذلك كندا، وهى الحليف المقرب جداً للولايات المتحدة، ولكنها لحماية مصالحها فرضت رسوماً على سلع أمريكية فى حدود 12 مليار دولار، وحسب رئيس وزرائها، فهم على استعداد لفرض رسوم أخرى إذا فرضت واشنطن رسوماً جديدة. أيضاً فإن العلاقة الوثيقة بين الثلاثى أمريكا والمكسيك وكندا الممثلة فى اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية تواجه تهديداً أمريكياً كبيراً وقد تُلغى قريباً. تهديدات «ترامب» بفرض رسوم على السيارات الأوروبية المنشأ من شأنها أن تزيد الفجوة بين الولايات المتحدة وحلفائها. والمرجح أن يزداد الأمر سوءاً مع إصرار إدارة «ترامب» على فرض عقوبات على الشركات الأوروبية التى تستمر فى التعامل مع إيران بعد الرابع من نوفمبر المقبل فى مجال شراء البترول. صحيح أن بعض الشركات الأوروبية سوف تنصاع للإملاءات الأمريكية، بيد أن البعض الآخر أعلن صراحة أنه يرفض هذه العقوبات. تركيا أعلنت صراحة أنها غير معنية بالعقوبات الأمريكية وسوف تستمر فى شراء البترول الإيرانى. الهند تفكر بالطريقة نفسها، والصين أعلنت أنها تدرس الموقف.
اندفاع الرئيس ترامب نحو فكرة الأولوية للمصالح الأمريكية وليذهب الآخرون إلى الجحيم، وجدت صدى قوياً لها فى عدد من الدول الأوروبية. الآن نجد فى إيطاليا شعاراً يقول «إيطاليا أولاً» يقوده حزب الرابطة برئاسة ماتيو سالفينى، وزير الداخلية الحالى، المناهض تماماً للمهاجرين وللإسلام والداعى إلى منع الهجرة عن كل أوروبا. ومن قبل رفع اليمين الفرنسى الشعار ذاته ولم يكن يحصل إلا على نسبة محدودة فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية. مع مجىء «ترامب» ارتفعت نسبة التوجهات اليمينية فى فرنسا إلى 26%. حزب البديل الألمانى، ويماثل فى توجهاته توجهات حزب الرابطة اليمينى الإيطالى، حصل على نسبة معتبرة فى الانتخابات الألمانية الأخيرة، وبات رقماً صعباً فى البوندستاج الألمانى. سياسات المجر ورومانيا رسمياً ضد الهجرة. إذا استمرت تلك التوجهات المناهضة للاتحاد الأوروبى، فمن المرجح أن يحدث انهيار تدريجى فى التماسك الأوروبى، وبالتالى التحالف عبر الأطلسى. الموقف من الهجرة ومنعها أو الحد منها أو طرد المهاجرين أو وضعهم فى معسكرات تخضع لقيود شديدة، كل ذلك يعكس تحولاً فى التوجهات الأوروبية نحو الآخر غير الأوروبى، سواء دينياً أو عرقياً أو جغرافياً. أوروبا تتحول نحو اليمن كما هو الحال فى إدارة «ترامب».
هذه التحولات الفكرية والقيمية فى التحالف الأطلسى هى جزء رئيسى من بنية النظام الدولى، ويقابلها توجهات معاكسة فى الجانب الآخر بقيادة الصين وروسيا وبعض حلفاء لهما يقودون بناء مؤسسات أمنية واقتصادية كالبريكس ومنظمة شنغهاى وغيرهما، تمثل بديلاً للمؤسسات التى تخضع للنفوذ الأمريكى. تغيرات كبرى تحدث أمام أعيننا وعلينا أن ننتبه.
نقلًا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع