اعتاد اليهود تاريخياً أن يعيشوا فى عزلة عن كل أقرانهم من أبناء الدول التى يقيمون فيها. كانت عندهم مبرراتهم للسكن والعيش فى تلك «المعازل» أو «الجيتوهات». وكان «الجيتو» أو «المعزل» يعد بمنزلة «مرتكز الأمان» بالنسبة لهم.
لكن أحداً لم يتصور أبداً أن هؤلاء اليهود باتوا أسرى لعقدتين مستحكمتين حتى عندما أصبحت لهم دولة؛ الأولى هى عقدة الاضطهاد الذى عاشوه فى منافيهم السابقة والثانية هى عقدة ممارسة الاضطهاد والتنكيل ضد الشعب الفلسطينى الذى وقع عليه عبء تحمل هاتين العقدتين منذ أن نجح اليهود فى احتلال فلسطين. فالفلسطينيون أجبروا بالقهر والقوة على مغادرة مدنهم وقراهم والفرار إلى دول الجوار العربي، وأصبحوا لاجئين، ومن استطاع منهم الصمود والبقاء داخل إسرائيل تحملوا أعباء الاضطهاد مضاعفة داخل الكيان الإسرائيلي، وأصبحوا الآن مضطرين، بعد إقرار ما يسميه الإسرائيليون «قانون القومية» أن يتحولوا إما إلى لاجئين جدد فى المنافى والشتات، وإما أن يصبحوا مجرد أقلية مجردة من جميع الحقوق المدنية.
فقانون القومية يستهدف جعل فلسطين كلها «وطناً لليهود» دون غيرهم، ما يعنى اقتلاع الفلسطينيين من جذورهم وديارهم، كى تتحول فلسطين إلى «حارة يهود كبيرة»، لأن اليهود لا يقدرون على العيش إلا داخل «الحارة» أو «الجيتو» اليهودي. كان اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم يجرى بصورة ممنهجة سواء داخل إسرائيل نفسها أو فى القدس والضفة الغربية التى يسمونها «يهودا والسامرة» ويعتبرونها «أرضاً محررة»، ويكرهون جداً اسم «احتلال» ويرفضون وصفها بـ«أرض محتلة» لسبب واضح وهو أنهم يرفضون الانسحاب منها ويستنكرون أى رفض للتوسع الاستيطانى والتهويد المتواصل، لأنهم يعتبرونها أرضهم ووطنهم بالقوة والاغتصاب وبالارتكاز إلى ما يعتبرونه «وعوداً إلهية».
فقانون القومية الذى أقره «الكنيست» يوم 19 يوليو الفائت يلخص جوهر المشروع اليهودى كما هو دون إخفاء وبعيداً عن كل محاولات التجميل السابقة التى قامت بها مؤسسات إعلامية ومراكز بحثية إسرائيلية وغربية.
فالقانون يقول بوضوح شديد أن دولة إسرائيل هي، وبأعلى صوت، «دولة فصل عنصري» دون خشية من أى رد فعل عالمي، ودون تحسب للآثار السلبية التى ستقع على الخطاب السياسى الذى يروج له أنصار مشروع السلام أو التسوية فى صفوف العرب أو غير العرب.
فالقانون ينص على أن «أرض إسرائيل هى الوطن التاريخى للشعب اليهودي»، وأن دولة إسرائيل هى «الدولة القومية للشعب اليهودي، وفيها يقوم بممارسة حقه الطبيعى والثقافى والدينى والتاريخى لتقرير المصير»، كما ينص على أن «القدس الكاملة والموحدة هى عاصمة إسرائيل».
هذا يعنى أن دولة إسرائيل ستتحول إلى «حارة يهودية كبيرة» خالية من «العرب الغرباء» أو وضع هؤلاء الغرباء أو «الأغيار» فى معازل وحارات أخرى خاصة بهم، لكن ولكى تكتمل معالم الحارة فإنهم شرعوا منذ سنوات فى بناء وتشييد أسوار أسمنتية محصنة على ما يعتبرونه حدوداً، قد تكون مؤقتة لدولتهم. أقاموا الجدار العنصرى العازل فى الضفة الغربية الذى قضم معظم أراضى الضفة وألحقها بالكيان الإسرائيلي، وأقاموا جداراً عازلاً على حدودهم مع مصر ومع قطاع غزة ويقيمون الآن جداراً عازلاً على الحدود مع لبنان وهناك سور من الأسلاك الشائكة والمراقبة الإلكترونية على الحدود مع سوريا فى الجولان السورى المحتل وبهذا يكون «الجيتو اليهودي» قد اكتمل فى شكل دولة.
هم يعتبرون أنهم يحصنون «حارتهم» بهذه الجدران، لكنهم للأسف خسروا مشروعاً كانوا يعتقدون أن فى مقدورهم تزعمه، هو مشروع الشرق الأوسط، فإذا كانوا قد كسبوا حارة فإنهم خسروا مشروعهم، وأن هذه الحارة يمكن أن تكون نهايتهم، ولعل هذا ما يفجر الآن المعارضة القوية لقانون الملكية داخل الكيان الصهيونى نفسه، هذه المعارضة تخشى أن يكون الالتزام بهذا القانون هو فى ذاته مشروع تصفيته.
فالقانون من وجهة نظر المعارضين الإسرائيليين أظهر الوجه القبيح للدولة الإسرائيلية، أنهى الأسطورة الزائفة لـ «دولة واحة الديمقراطية» فى الشرق الأوسط وأرسى بدلاً منها معالم دولة عنصرية بغيضة ستمارس بالقانون الفصل العنصرى ضد ما يعتبرونه «أقلية عربية» سواء فى السكن أو بإرساء مسارين منفصلين للمواطنة على أساس الهوية العرقية والدينية، ومن ثم يقدم إسرائيل طواعية «لقمة سائغة للقانون الدولي» الذى يحرِّم العنصرية، ومن ثم يمكن أن يجعل العالم كله فى مواجهة إسرائيل، كما أنه يضع إسرائيل فى مواجهة مع الدول التى توجد بها أقليات يهودية فى ظل تبنى هذا القانون لمضمون «قانون العودة» الإسرائيلى الذى يجعل كل يهودى يعيش فى أى مكان فى العالم «صاحب حق شرعى فى العودة إلى وطنه اليهودي.. إسرائيل».
فقانون «العودة» أو «المواطنة» يمنح المواطنة الإسرائيلية لكل يهودى فى العالم فى حين يحرِّم عودة اللاجئين الفلسطينيين، والأكثر من ذلك أنه يسعى إلى تصفية وجود اللاجئين ذاتهم عبر سياسات مدعومة أمريكياً أبرزها الإصرار على تصفية منظمة «الأونروا» (منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) لا لشىء إلا لأنها تتبنى تعريفاً للاجئ ترفضه إسرائيل وترفضه الولايات المتحدة حيث تتبنى الأونروا تعريفاً للاجئين الفلسطينيين يتضمن اللاجئين الأصليين الذين تشردوا عام 1948 وأبناؤهم وأحفادهم وتحصر عددهم الآن بخمسة ملايين لاجئ، فى حين أن إسرائيل والولايات المتحدة تحصران اللاجئين بمن تشردوا خلال النكبة فقط واستثناء نسلهم من الأجيال اللاحقة.
لقد أسقط «قانون القومية» الإسرائيلى «ورقة التوت المزيفة» عن الكيان الإسرائيلي، لكنه أسقط فى ذات الوقت ورقة التوت عن مشروع السلام الأمريكى الذى يحمل اسم «صفقة القرن» فهو شريك فى مشروع الدولة اليهودية أو «الحارة اليهودية» بجعل القدس عاصمة لإسرائيل والسعى الأمريكى الدءوب لتصفية قضية عودة اللاجئين الفلسطينيين لكن الأهم أن هذا القانون، أى قانون القومية، فى مقدوره أن يعيد الصراع مجدداً إلى قاعدته الحقيقية التى حرصت أطراف عديدة على طمسها وأن يستعيد الوعى العربى الغائب بحقيقة الصراع لدى أجيال عربية وفلسطينية جديدة ويضعها أمام مسئولية استعادة الحقوق ومحاصرة تلك «الحارة اليهودية» داخل جدرانها الأسمنتية على العكس مما يتوقع الإسرائيليون. فالمحاصرة لتلك «الحارة» هى البداية اللازمة لإعادة تأسيس مشروع عربى - فلسطينى جديد للمقاومة.
نقلا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع