بقلم - محمد السعيد إدريس
كشف الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى مؤتمره الصحفى المشترك مع نظيره الفرنسى إيمانويل ماكرون الثلاثاء الماضى (24 أبريل الحالى) كثيرا من الغموض الذى أحاط بتناقضات السياسة الأمريكية فى سوريا على مدى ما يقرب من شهر كامل مضى. بدأت هذه التناقضات بإعلانه فى خطاب «شعبوي» أمام عمال صناعيين فى أوهايو (29/3/2018) أن «القوات الأمريكية ستنسحب من سوريا قريبا » وزاد على ذلك أمرين؛ أولهما، قوله «فلندع الآخرين يتولونه الآن»، كان يقصد المهام التى تقوم بها القوات الأمريكية فى سوريا، ولم يكن أحد يتوقع وقتها أن ترامب يخاطب الدول الخليجية الحليفة وليس روسيا أو إيران أو تركيا أو الجيش السوري، وهى الأطراف التى تتنازع النفوذ مع الأمريكيين على الأراضى السورية. أما الأمر الثانى فكان حديثه المستفيض عن 7 تريليونات دولار أنفقتها بلاده فى الشرق الأوسط دون تحقيق أي مكاسب، وقال بالحرف «أنفقنا 7 تريليونات دولار فى الشرق الأوسط.. هل تعلمون ما الذى حصلنا عليه لقاء ذلك؟.. لا شىء». لكن سرعان ما تظاهر ترامب بالتراجع عن قرار الانسحاب من سوريا بعد اجتماع مهم لمجلس الأمن القومى الأمريكى أكد أن «المهمة الأمريكية فى سوريا لم تنته بعد» أما الرئيس ماكرون فكان حريصاً على أن يربط بين بقاء القوات الأمريكية في سوريا وبين ضرورة أن تقوم دول أخرى بالمنطقة بدفع تكاليف هذا الوجود الأمريكي.
كان واضحا أن ما يشغل بال ترامب هو ضرورة توفير تمويل للإنفاق على القوات الأمريكية فى سوريا كى تقوم بالوظائف المطلوبة. ولم يشأ ترامب أن يضيع فرصة تعليق أدلى به ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان رفض فيه دعوة انسحاب القوات الأمريكية من سوريا. ففى حديثه الذى أدلى به ولى العهد السعودى لمجلة «تايم» الأمريكية على هامش زيارته للولايات المتحدة أكد الأمير السعودى ضرورة أن تبقى القوات الأمريكية فى سوريا، معتبرا أن ذلك هو «السبيل الوحيد لوقف تمدد النفوذ الإيرانى فى المنطقة»، قرأ ترامب جيداً كلام الأمير السعودى وبدأ ينسج عليه مشروعه لتوظيف «الفزاعة الإيرانية» لسلب المملكة وأشقائها فى الخليج ثرواتها المالية، من هنا جاء الإصرار الأمريكى على العدوان على سوريا تحت غطاء معاقبة الرئيس السورى ونظامه على استخدام أسلحة كيماوية فى مدينة دوما بالغوطة الشرقية. وقتها كثرت التساؤلات حول مقاصد وأهداف هذا العدوان الفاشل والمحدود القيمة. لماذا تسرع ترامب فى شن العدوان، ولماذا لم يقم بعدوان قوى يرضى الحلفاء الإقليميين ومنظمات المعارضة التى كانت تأمل فى «إسقاط النظام».
ولمزيد من الغموض عاد الرئيس الأمريكى ليتحدث مرة ثانية عن عزمه على سحب قواته من سوريا، لكنه تعمد هذه المرة أن يحدث المزيد من الإرباك فى صفوف الحلفاء الإقليميين عندما تم تسريب المعلومات التى تتحدث عن اقتراح أمريكى يقضى بضرورة إرسال قوات عربية من أربع دول عربية هي: السعودية والإمارات وقطر ومصر لتحل محل القوات الأمريكية الموجودة فى سوريا.
أسئلة كثيرة فرضت نفسها مباشرة عقب الترويج لهذه الدعوة الأمريكية منها لماذا شن ترامب عدوانه على سوريا وتحدى المجتمع الدولى مادام أنه عازم على الانسحاب؟ وهل هو على يقين بأن الدول المعنية بدعوته تقبل أن تقوم بوظائف القوات الأمريكية فى سوريا؟ وإذا كانت تقبل هل تقدر على القيام بتلك الوظائف المتشعبة والمتعددة أم أن الرئيس الأمريكى يريد إحراج هذه الدول ووضعها أمام تحديات لا تقدر عليها؟
ترامب لم يكتف بوضع الدول الخليجية الحليفة فى موضع حرج بإظهار عجزها بالدليل القاطع على أن تدافع عن مصالحها فى سوريا، لكنه تحدث فى مؤتمره الصحفى المشار إليه مع الرئيس الفرنسى عن «وجود دول شديدة الثراء فى المنطقة»، وأن بقاء هذه الدول مرهون بالحماية الأمريكية، وتجرأ على القول بأن «هذه الدول لا تستطيع البقاء أسبوعا دون الحماية الأمريكية وبدرجة أقل الفرنسية»، وندد ترامب بتردد قادة دول الخليج فى إعطاء الولايات المتحدة ما تريده من أموال لإعادة تحديث البنية التحتية الأمريكية والنهوض بالولايات المتحدة، وانتقد الردود السلبية لقادة هذه الدول على المطالب الأمريكية مشيراً إلى أنهم يقولون: «علينا أن نكون حذرين فى صرف أموالنا». الخطير أن ترامب اختتم كلامه بأنهم (الحلفاء الخليجيين) «سيدفعون»، أى سيدفعون ما يريده، وما يريده ترامب كثير وكثير جداً، ما يريده ترامب كشفه بوضوح أكثر فى اجتماعه بواشنطن مع الوفد السعودى برئاسة الأمير محمد بن سلمان وسجلته بالصوت والصورة محطة «سي.إن. إن» الأمريكية. قال ترامب أن «ولى العهد السعودى يعرف تماماً كم هى ثروة المملكة العربية السعودية، وأن لهم أكثر من 25 ألف مليار دولار (25 تريليون دولار) فقط فى المصارف الأمريكية»، وقال أن إعطاء السعودية 400 مليار دولار أو إضافة 400 مليار دولار أخرى للولايات المتحدة لا تمثل شيئا بالنسبة لهذه الثروة السعودية، وقال بوضوح «يجب على صديقى ولى العهد السعودى أن يقوم بضخ 5 آلاف مليار دولار فى الولايات المتحدة من أجل الاستثمارات ومن أجل شراء معدات أمريكية، ومن أجل الاشتراك فى مشاريع تحتاج أمريكا إلى سيولة لتنفيذها»، مشيرا إلى أن وزير الخزانة الأمريكى قال أن 5 آلاف مليار دولار ستجعل الاقتصاد الأمريكى أقوى مرتين من وضعه الحالي»، وتحدث عن استعداد واشنطن لتقديم الحماية الكاملة ضد الخطر الإيرانى وجعل الجيش السعودى من أقوى الجيوش فى المنطقة وإمداده بأحدث ما فى الترسانة العسكرية الأمريكية من أسلحة خاصة الطائرات وصواريخ الباتريوت من طراز «باك - 16» وليس «باك- 9».
ترامب يريد 5 تريليونات دولار من السعودية وحدها. وهو يعرف ما يقول يعرف أن هذا المبلغ يساوى تقريبا التقديرات الأمريكية الأولية للأموال التى يمكن أن تدفعها السعودية للولايات المتحدة إذا فعلت واشنطن قانون «جستا» الذى يتهم دول الخليج بدعم الإرهاب ويطالبها بدفع تعويضات لأسر ضحايا هجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001.
ترامب يمارس إذن الابتزاز، ومطالبته الدول الخليجية بإرسال قوات عربية إلى سوريا تأتى ضمن هذا الابتزاز، لأنه لن ينسحب من سوريا لمصالح أمريكية مؤكدة وليس لإرضاء الدول الخليجية، هو يريد أن يحصل على أثمان الحماية الأمريكية للدول الحليفة، وحاول ذلك مع كوريا الجنوبية مؤخراً، فهل تملك الدول العربية إرادة كوريا الجنوبية فى الرد على ترامب؟ هذا هو التحدي.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع