بقلم - محمد السعيد إدريس
كم كان لافتا ومثيرا، فى آن واحد تلك الفجوة الواسعة جداً فى إدراك قطاعات إسرائيلية وعربية واسعة لما تعنيه التصريحات، التى يمكن وصفها مؤقتاً بـ «عابرة المعانى» ونقصد مختلطة المعانى بين الجد والهزل، بين المؤقت والمستمر وربما بين التكتيكى والإستراتيجي، التى أدلى بها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى لقائه رئيس حكومة الكيان الصهيونى بنيامين نيتانياهو على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك، وهى التصريحات التى تخص ما ورد من إشارة، للمرة الأولي، على لسان ترامب إلى «حل الدولتين» للقضية الفلسطينية. فالرئيس الأمريكى يؤكد بأقواله وأفعاله أنه وإدارته مسخران للانتصار للمشروع الصهيونى على أرض فلسطين وأنهما يخدمان ما يريده الإسرائيليون وبالذات اليمين اليهودى المتطرف وزعماء الاستيطان، وهؤلاء هم من أصدروا «قانون القومية» الذى يتعامل مع أرض فلسطين التاريخية بأنها «أرض للشعب اليهودى وحده ودون منافس»، وهم يتعاملون مع الفلسطينيين أصحاب هذه الأرض بأنهم «غرباء»، ويرون أن «التوطين هو الحل» لإنهاء ما يُعرف بـ «حق العودة» للاجئين الفلسطينيين لأنهم يؤمنون فقط بـ «حق العودة» لكل يهودى يقيم فى أى دولة فى العالم بالعودة إلى دولته «إسرائيل».
مشروع ترامب وإدارته، وبالذات فريقه لإدارة ما يسمونه بـ «الأزمة الإسرائيلية- الفلسطينية» وآخرون من رموز الإدارة وقادة الكونجرس والمنظمات اليهودية فى الولايات المتحدة يتطابقون فى الرؤية مع هذا اليمين الإسرائيلى المتطرف بخصوص حل الأزمة الإسرائيلية - الفلسطينية بعيدا تماما عن القرارات الصادرة عن الشرعية الدولية وقواعد القانون الدولى التى تنظم إدارة المناطق الواقعة تحت الاحتلال. آخر اجتهادات هذا الفريق هو الاقتراح الذى كشفه، أو بالأحرى فضحه، الرئيس الفلسطينى محمود عباس فى لقاء جمعه مع وفد يمثل حركة «السلام الآن» الإسرائيلية فى رام الله وسرَّبت تفاصيله إلى صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية وهو الاقتراح الذى عرضه فريق التفاوض الأمريكى الثلاثى الذى يضم «جاريد كوشنر صهر ترامب وجيسون جرينبيلات مبعوث ترامب للشرق الأوسط وديفيد فريدمان» السفير الأمريكى فى القدس، على الرئيس الفلسطيني، ويقضى بخلق كيان دولى جديد يضم الأردن والضفة الغربية، (كونفيدرالية أردنية - فلسطينية) على أن تضم إسرائيل القدس المحتلة وكل المستوطنات المقامة على الضفة الغربية إليها، أى ضم ما سيتبقى من أراضى الضفة إلى الأردن ضمن صيغة «الكونفيدرالية»، وتجاهلوا تحديد علاقة قطاع غزة بهذه الكونفيدرالية: هل سيضم إليها، أم سيستقل بذاته «دولة غزة» أم ستؤول إدارته إلى مصر. أبو مازن رفض هذا الاقتراح وتعمد الاستهزاء بهم وطرح بديلاً له إقامة كونفيدرالية ثلاثية تضم إسرائيل مع الأردن وفلسطين، وهنا لم يجد هؤلاء رداً إلا التهديد بأنه ليس أمام الفلسطينيين إذن إلا الحكم الذاتى فى المناطق الواقعة خارج نطاق المستوطنات التى ستضم إلى إسرائيل. لذلك كان غريبا «الكلام» الذى أدلى به الرئيس الأمريكى بترجيحه لفكرة «حل الدولتين»، ثم مداعبته صديقه نيتانياهو بـ «إما حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة» فى إشارة إلى خطورة رفض حل الدولتين لأن «حل الدولة الواحدة» يمكن أن يفرض نفسه حتماً بكل مخاطره التى ستحوِّل إسرائيل إلى «دولة ثنائية القومية» بدلاً من أن تصبح «دولة يهودية خالصة» وبخطر التفوق العددى المستقبلى للفلسطينيين فى هذه الدولة التى يمكن أن تكون عربية وليست يهودية بعد عقود قليلة من الزمن.
لذلك تظاهر ترامب بإعلان دعمه لحل الدولتين قائلاً: «أعتقد أنه الحل الأنجح، هذا ما أشعر به»، وكان تعليق نيتانياهو الفورى هو الاكتفاء أولاً بشكر ترامب لدعمه وقراره الانسحاب من الاتفاق النووى الإيراني، معتبراً أن العلاقات الأمريكية- الإسرائيلية لم تكن أبداً كما هى عليه فى ظل إدارته، ثم، أعلن بعد نهاية اللقاء أنه «لم يفاجأ بتفضيل الرئيس ترامب لـ (حل الدولتين)» لكنه استدرك بأن «على الدولة الفلسطينية المستقبلية أن تكون منزوعة السلاح، وأن تعترف بإسرائيل دولة للشعب اليهودي»، ثم نقلت عنه صحيفة «هاآرتس» قوله إن «إسرائيل يجب أن تحتفظ بالسيطرة الأمنية من غرب الأردن حتى البحر المتوسط»، وهذا يعنى فلسطين كلها بما فيها الأرض المقترحة للدولة الفلسطينية، وقال «أنا مستعد لأن يكون للفلسطينيين سلطة لحكم أنفسهم من دون أن تكون لهم السلطة لإيذائنا»، وهذا معناه أن كل ما عند نيتانياهو من حل هو «الحكم الذاتي» وأن كلاً من حل الدولتين وحل الدولة الواحدة مرفوضان مطلقاً وحتى هذا الحل، أى الحكم الذاتي، مؤجل، من وجهة نظر نيتانياهو لحين تطبيع العلاقات الإسرائيلية- العربية، وفق تصريح أدلى به مع «الإذاعة العامة الليتوانية» (27/8/2018) أشار فيه إلى أن «العديد من الدول العربية ترى إسرائيل كحليف لا يمكن الاستغناء عنه فى التصدى للعدوان الإيراني»، موضحاً «اعتقد أنه إذا كان لدينا سلام مع العالم العربى الأوسع فسيساعد ذلك فى التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين».
نيتانياهو ليس وحده من يرفض مقترحات أو تصورات أو حتى «مداعبات» ترامب، بل يرفضها أيضاً أركان إدارة ترامب بدليل قيام كل من جون بولتون مستشار الأمن القومى الأمريكى وديفيد فريدمان السفير الأمريكى فى القدس بتفنيد ورفض ما سبق أن ورد فى تعليق سابق جاء على لسان الرئيس الأمريكى طالب فيه إسرائيل بـ «دفع ثمن حصولها على القدس» حيث قال «إننا أزحنا القدس عن طاولة المفاوضات ولم تعد قضية يفاوض عليها» وأضاف «آن الأوان لكى تدفع إسرائيل ثمن ذلك»، ورد عليه جون بولتون من داخل إسرائيل نفسها بقوله «إن نقل السفارة لم يستهدف أبداً الحصول على تنازلات من إسرائيل».
تصريحات بقدر ما تحمل من تطمينات للإسرائيليين الذين أصابهم الذعر والهلع من تصريح ترامب بخصوص حل الدولتين بقدر ما تحمل من صفعات لكل هؤلاء الذين يتهافتون على أى فرصة لتجميل كل الوجوه القبيحة سواء كانت أمريكية أو إسرائيلية أو عربية، التى مازالت تروج لأكذوبة «السلام» مع الكيان الصهيوني، وتتغنى بأهازيج الفرص التى تراها سانحة لسلام يرضى الصديق الإسرائيلى بقدر ما يحفز على تطبيع العلاقات معه على صدى من «تجارة الأوهام».
نقلا عن الاهرام
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع