بقلم - محمد السعيد إدريس
قدمت احتفالات مئوية ميلاد الزعيم جمال عبدالناصر التى أجريت على مدى أيام الأسبوع الفائت، وبالذات الندوات والورش البحثية والفكرية فرصة نادرة لمنتسبى التيار القومى الناصرى على امتداد الوطن العربى الذين شاركوا فى هذه الفعاليات، لإعادة تقييم مشروعهم الثورى على ضوء التطورات والمتغيرات المصرية والعربية والعالمية التى حدثت منذ رحيل الزعيم عام 1970، وعلى ضوء الانتقادات التى وجهت للمشروع على مدى سنوات ممتدة وظلت تردد مقولة إن «مشروع جمال عبد الناصر تجاوزته الأحداث من منطلق «حسن النوايا»، أما أصحاب النوايا السيئة فكانوا يؤكدون، وبثقة أن المشروع «سقط» بعضهم ربط السقوط بنكسة 1967 وبعضهم ربطه بعجز المشروع عن الدفاع عن نفسه بعد رحيل جمال عبد الناصر.
وقبل أن نتحدث عن جوهر استخلاصات تلك الندوات والورش الفكرية من الضرورى أن نشير بداية إلى ملاحظتين؛ الأولى أن هذه لم تكن المرة الأولى التى يقيِّم فيها الناصريون أنفسهم عبر «النقد الذاتى والديمقراطي»، ربما تكون هذه هى المرة الثالثة. غيرهم لم يفعل ذلك ولم يحاول. وعندما حاول الناصريون كانوا يستهدفون المراجعة من أجل المستقبل وليس مجرد الدفاع عن تجربة مضت، لأنهم مسكنون بحقيقة أن مشروعهم الثورى هو «مشروع مستقبل أمة».
أما الملاحظة الثانية فهى أن كثافة المشاركة فى مناقشات تلك الندوات والورش والأفكار المهمة التى طرحت أدت إلى إحياء الأمل فى إعادة التأسيس لمشروع جمال عبد الناصر وتأكيد الدعوة إلى ضرورة تأسيس «الحركة العربية الواحدة» لتقود النضال من أجل قضايا الأمة والتصدى للتحديات وبالذات مواجهة المشروع الصهيونى ومناهضة التطبيع وإحياء خيار المقاومة، والتصدى لمشروع إعادة تقسيم الدول العربية وترسيخ استقلالها الوطنى وتجديد مشروع الوحدة العربية باعتبارها الضمان الأهم لتحقيق أهداف: التنمية الشاملة والأمن الكامل والحفاظ على سيادة الأوطان واستقلالها. أما على مستوى البحث والتحليل العلمى فقد نجحت الاحتفالية بندواتها وورشها الفكرية فى إجلاء الغموض عن الكثير من القضايا والإشكاليات، وإعادة طرح المشروع الناصرى كمشروع مستقبلى للأمة بعد جولات مكثفة من المناقشات والحوارات العلمية الرصينة البعيدة تماماً عن الأطر الدعائية والإعلامية. وإذا كانت مساحة المقال لا تسمح باستعراض كل أو معظم الأفكار التى من خلالها تم استخلاص هذا الاستنتاج المهم، فسوف نكتفى باستعراض المحطات الأهم بهذا الخصوص. أولى هذه المحطات أن مشروع جمال عبد الناصر لم يسقط تلقائياً، ولكنه أُسقط بفعل فواعل كثر داخل مصر وخارجها. فقد تعارض هذا المشروع داخل مصر مع مصالح القوى الطبقية والسياسية الرجعية الموالية للغرب التى عرفت منذ اللحظة الأولى لقيام الثورة يوم 23 يوليو 1952 أن هذه الثورة تستهدف النيل من مكتسباتها، كما تعارض هذا المشروع خارجها جذرياً مع المشروعين الصهيوني- الاستيطانى والغربى الاستعماري، فهو باعتباره استهدف تحرير الوطن العربى وتحقيق استقلاله وحريته وتحقيق وحدته دخل فى مواجهة مع المشروع الصهيونى واعتبر أن الصراع معه ليس على حدود مختلف عليها بل على وجود هذا المشروع الصهيونى نفسه. كما رفض المشروع الناصرى الخضوع للتبعية الغربية والأمريكية على وجه الخصوص واعتبرها تستهدف السيطرة على الثروات العربية ونهبها وفرض التجزئة والتخلف على كل الأقطار العربية.
بسبب هذه العلاقة الصدامية حاول كل هؤلاء وأعوانهم داخل مصر وخارجها إسقاط جمال عبد الناصر ومشروعه ابتداءً من محاولة الإخوان اغتياله عام 1954، ثم رفض الأمريكيين تسليح الجيش المصري، وبعده عدوان إسرائيل على غزة عام 1955، ثم رفض الأمريكيين تمويل مشروع السد العالي، ثم العدوان الثلاثى عام 1956، ثم التآمر على الوحدة المصرية- السورية وتمويل الانفصال الذى حدث فى سبتمبر 1961، ثم تمويل المرتزقة واستنزاف الجيش المصرى فى اليمن، ثم وقف معونات القمح الأمريكى عن مصر، وإعلان العداء الأمريكى للصناعة العسكرية المصرية ودخول مصر مبكراً عصر الطاقة النووية «مفاعل انشاص»، ثم كانت المحاولة الانقلابية الإخوانية الثانية عام 1965 والممولة من الخارج، وجاء عدوان يونيو 1967 ليجسد ذروة المواجهة العدوانية ليس فقط ضد المشروع وصاحبه بل وضد مصر كلها.
وبعد وفاة عبد الناصر، أخذت المواجهة مع المشروع أبعاداً أخرى وخاصة بعد انتصارات حرب أكتوبر 1973 خشية أن تحدث هذه الانتصارات إحياءً جديداً لمشروع النهضة الذى أرادوا تصفيته بعدوان 1967. فقد ركز البُعد الأول على تصفية المرتكزات الاقتصادية الاجتماعية للمشروع لإعادة مصر، مرة أخري، إلى عصر التبعية للغرب، وركز البُعد الثانى على إنهاء علاقة مصر بالعروبة وبقضية فلسطين عبر دفعها للانخراط فى مشروع السلام مع إسرائيل. لذلك لم يكن مستغرباً أن يربط الأمريكيون بين مساعدة مصر على تحقيق «الرخاء» بعد حرب أكتوبر وبين شرط انخراطها فى هذا المشروع للسلام، وأن يربطوا تقديم المعونات الاقتصادية بضرورة إجراء تغييرات جذرية فى بنية النظام السياسي- الاقتصادى على غرار الشروط التى فرضها ويليام سايمون وزير الخزانة الأمريكى عام 1976 وأبرزها شرط بيع القطاع العام لتدمير القدرة الإنتاجية والتنموية لإعادة تركيع مصر مجدداً وإنهاء استقلالها الوطني، ولضمان أن تكون حرب أكتوبر هى «آخر الحروب المصرية مع الكيان الصهيوني». أما المحطة الثانية المهمة فهى أن ما سقط ليس مبادئ المشروع ولكن، الذى نجحوا فى إسقاطه هو بعض معالم تجربة الحكم كما تمت فى حياة جمال عبد الناصر. فقد كان المشاركون واعين بضرورة التمييز بين مبادئ المشروع الناصرى وبين المحاولات التجريبية لهذه المبادئ فهذه المحاولات قد تنجح وقد تفشل أما المبادئ فهى الباقية، وهذا ما أكدت عليه خلاصات الاحتفالية خصوصاً ما يتميز به المشروع الناصرى بما يمكن تسميته بـ «المبادئ المتلازمة» أى المبادئ التى يشترط تلازمها معاً لتحقيق الأهداف المرجوة وهى التى تشكل معاً محور مشروع جمال عبد الناصر وخاصة تلازم مبادئ: العدالة والحرية، والتنمية والاستقلال الوطني، والتنمية والعدالة، والتنمية والأمن، والأمن والعدالة، والحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، والوحدة والتنمية، والوحدة العربية وتحرير فلسطين.
هذا الترابط والتداخل بين هذه المبادئ المتلازمة فى نسيج متكامل هو جوهر مشروع جمال عبد الناصر وهو الذى يجعل منه مشروعاً صالحاً بل وضرورياً للمستقبل خصوصاً فى ضوء ارتباطه بمفهوم شديد الخصوصية للنظرية الاجتماعية عند جمال عبدالناصر، وهذا بالتحديد فى حاجة إلى مزيد من التحليل.
نقلا عن الاهرام القاهرية