بقلم: طلعت إسماعيل
الغضب من توجه الحكومة إلى فرض رسوم على تطبيق «الواتساب»، قد يكون الشرارة التى أشعلت نيران التظاهر فى كل أرجاء لبنان على اختلاف مكوناته وطوائفه، غير أن الأزمة التى تتصاعد حدتها منذ الخميس الماضى أكثر عمقا وتعقيدا من اعتبارها مجرد احتجاجات يمكن لملمتها بوعود حكومية بعدم فرض أية ضرائب جديدة مع التراجع عن فرض رسوم على خدمة الاتصالات بالهواتف المحمولة.
التظاهرات جاءت تعبيرا عن مخزون غضب على تردى الأوضاع المعيشية، وتدهور الخدمات الحكومية وفى مقدمتها الانقطاع شبة الدائم للكهرباء خاصة فى العاصمة بيروت، وعكست وجها لأزمة اقتصادية مركبة تترجم فى زيادة الأسعار، وارتفاع نسبة البطالة إلى 20%، وتراجع قيمة العملة الوطنية اللبنانية (الليرة) بشكل كبير أمام الدولار فى السوق السوداء، وانخفاض حاد فى معدل النمو الذى بلغ 0.2 بالمائة فقط عام 2018، وفقا لبيانات صندوق النقد الدولى.
تردى الحالة الاقتصادية جعل أكثر من ربع اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر، فيما احتل لبنان المرتبة 138 ضمن 180 دولة، فى مؤشر الفساد لمنظمة الشفافية الدولية لعام 2018، وهو ما جعل المتظاهرين يرفعون أصواتهم للمطالبة بمحاسبة الفاسدين الذين تسببوا فى وصولهم إلى هذا الوضع.
نأتى إلى النقطة الأهم فى الأزمة التى دفعت بمئات الآلاف إلى التظاهر، والخروج للمطالبة «بإسقاط النظام»، هو تكلس الطبقة السياسية التى لم تغيير منذ نهاية الحرب الأهلية المدمرة التى اندلعت عام 1975 واستمرت حتى عام 1990.
الوجوه نفسها تقريبا، وقواعد اللعبة ذاتها، تتصدر المشهد السياسى اللبنانى على مدى 30 عاما تقريبا، مع بضع رتوش هنا وهناك، فرضتها تغيرات محلية حينا أو إقليمية ودولية فى غالبية الأحيان. طبقة سياسية تستغل الانقسام الطائفى أو المذهبى لتمرير سياسات وقرارات تفوح منها مصلحة هذا الزعيم السياسى أو ذاك بتحالفاته الظاهر منها والخفى، أكثر منها لخدمة المواطن اللبنانى البسيط الذى تحولت حياته إلى معاناة يومية فى معركة البقاء.
انشغلت النخبة السياسية بترتيب أوراقها الإنتهازية وتدعيم تحالفاتها عابرة الحدود، وسط صراع إقليمى محتدم لم يختر غالبية اللبنانيين الدخول فيه، وباتت الأجندة الوطنية فى ذيل الأولويات، ومن هنا يمكن فهم مطالبة المتظاهرين برحيل جميع رموز النظام الحالى الذين تم اختزالهم فى تعبير «كلكن يعنى كلكن» الذى رفع فى الميادين والساحات التى أمتلأت بالمحتجين.
الآن تناور الطبقة السياسية اللبنانية، ويسعى كل طرف، اللاعب الأصيل والاحتياطى، لإلقاء اللوم على الآخر، فى سوق للمزايدات السياسية، غير مدركين هؤلاء الذين «شاخوا على مقاعدهم» بتعبير الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل، أن الزمن تغير، وهناك أجيال جديدة باتت عابرة للطوائف والمذاهب، وعقولها عابرة للأوطان، ولم تعد تعنيها التقسيمات التقليدية التى ظلت تحكم بالخوف من«الحرب الأهلية» لسنوات طوال.
خرج اللبنانيون بعد أن وحدتهم المعاناة، والتململ من ألاعيب الساسة، لا فرق إن خرجت من قصر بعبدا والضاحية الجنوبية، أو من المختارة وبيت الوسط فى بيروت، أو كانت صادرة عمن يخنقون الأمل بكل صوره فى مدن لبنانية أخرى، فقد دفع الشارع اللبنانى من قوته، ومستوى معيشته، بينما ظلت اللعبة العقيمة تمارس كما هى من دون الوضع فى الاعتبار قدرة الشعب اللبنانى على الاحتمال فى وجه غائلة الأيام.
يستشرى الفساد، وتخلو خزائن الدولة من الأموال فيسارع أرباب السياسة إلى فرض الضرائب والرسوم، تتدهور الخدمات، فتعطى الحكومة أذن من طين وأخرى من عجين، وكأن أكياس القمامة، التى عجزت يوما عن جمعها، لم تصل إلى أنوف وزرائها، ولم تر عيونهم ظلام البيوت مع انقطاع الكهرباء، فيما يجلس الشباب على المقاهى بلا عمل، فماذا كان ينتظر غير الخروج إلى الشوارع للاحتجاج؟!
الرهان على صبر الناس أمر محفوف بالمخاطر بالنسبة لأية حكومة عند اتخاذها أى قرار يتعلق بصلب حياة البشر فى غدوهم ورواحهم، فتحميل المواطن أكثر مما يستطيع لعب بنار قد يصعب إخمادها، وهذا هو الدرس الأول والمهم لتظاهرات الأشقاء فى لبنان.