شاهدت مؤخراً فيلماً سينمائياً فى عرضه الأول.. اسمه «The post» اختصاراً لاسم صحيفة «الواشنطن بوست». السيدة التى كانت على رأس الجريدة اسمها «كاثرين جراهام». قامت بدورها الممثلة الشهيرة جداً «ميريل ستريب». الجريدة التى أسَّسها جَدُّها آلت إليها. كانت الند والمنافس لجريدة «نيويورك تايمز».
السيدة مالكة «الواشنطن بوست» كانت تعيش معركة الخروج من أزمة الجريدة المالية. بطرح أسهم الجريدة فى بورصة نيويورك. نجحت فى الطرح. وجذب مساهمين للدخول فيها. مع احتفاظها بحصة حاكمة. لكن مع هذا الطرح. كان هناك شرط احترازى يسمح للمساهمين بالتراجع عن مساهمتهم خلال أسبوع إذا حدث شىء مفاجئ.
الآن إليكم ما حدث خلال ذلك الأسبوع الحرج:
أحد الصحفيين يحصل على أوراق عسكرية سرية من داخل البنتاجون. تتعلَّق بحرب فيتنام. التى تجاوز فيها عدد الضحايا من الأمريكان 57 ألف قتيل. هذا بخلاف المصابين. ووصل عدد الضحايا من الفيتناميين إلى مليون ومائة ألف قتيل فضلاً عن 13 مليون لاجئ.
الخطير فى التقرير الذى قدمه «روبرت ماكنمارا» ـ قبل أن يصبح وزيراً للدفاع - تأكيده على أنها حرب خاسرة. لن تستطيع أمريكا الانتصار فيها أبداً. مع ذلك تبنَّاها الرؤساء جميعاً. واحداً تلو الآخر: ترومان. أيزنهاور. كينيدى. جونسون. وأخيراً نيكسون.
الجميع يعلمون الحقيقة. بينما الجميع يخفون الحقيقة عن الشعب.
حصلت «النيويورك تايمز» على جزء يسير من هذه التسريبات. قامت بنشرها كسبق صحفى. نيكسون - وكان عنيفاً - ثار بسبب ما نُشر فى «النيويورك تايمز». تقدَّم بطلب للقضاء لإيقاف الجريدة التى بدأت فى النشر. بالفعل النائب العام الأمريكى أصدر قراراً بإيقاف جريدة «النيويورك تايمز» لمدة شهر. تقدَّمت الجريدة بتظلُّم أمام المحكمة العليا.
وفى ذات الوقت وبمجهود مُضْنٍ حصلت «الواشنطن بوست» على معظم هذه التسريبات من مصدرها الأساسى.
هنا أصبحت «الواشنطن بوست» بين نارين. لديها ما تنشره لتلحق بما انفردت به غريمتُها ويزيد. فى الوقت نفسه تخشى نفس المصير القانونى بأن تتعرَّض للإيقاف. وهنا ستخسر مساهميها الجدد الذين سينقذونها من الإفلاس.
رئيس التحرير كان يرى النشر فوراً. لإنقاذ سُمْعة الجريدة مهنياً. خالفه مجلس الإدارة بكامله وكان يرى عدم النشر. للحفاظ على مستقبل الجريدة وإنقاذها من الإفلاس.
أصبح القرار الأخير للسيدة مالكة الجريدة. راجعت هى الموقف. اكتشفت أن جَدَّها لم يترك لها جريدة فقط. ترك لها رسالة أهم كثيراً من الجريدة ذاتها. لذلك انحازت لرأى رئيس التحرير. قرَّرت النشر الفورى وليكن ما يكون.
بذلك انطبق على الجريدة ما انطبق على «النيويورك تايمز». ذهبتا معاً إلى المحكمة العليا. جلس ممثلا الجريدتين على مقعد الاتهام نفسه. ثم جاء الحكم.. حيثياته تقول: إن حرية النشر يحميها التعديل الأول فى الدستور الأمريكى. ينص على أنه من حق كل أمريكى أن يعرف كل شىء عن بلده. وجاء فيه أيضاً: «إن الجرائد تجىء خدمة للمحكوم وليس خدمة للحاكم». بذلك خرجت الجريدتان منتصرتين فى هذا الموقف الرهيب. تمسَّك المساهمون الجدد فى «الواشنطن بوست» بمساهماتهم. كانت هذه الواقعة عام 1969. مازالت «الواشنطن بوست» تقوم بمهمتها ورقياً ورقمياً منذ هذا اليوم. لم تعد جريدة محلية تخدم منطقة واشنطن. لكنها أصبحت جريدة الولايات جميعاً. إلى أن التهمها مؤخراً الديناصور المسمى «أمازون». لكنه لا يزال حريصاً على استمرار الرسالة.
نقلا عن المصري اليوم القاهرية