لا تنمو فى أى مكان زهرة تسمى (لا تنسانى) إلا فى المقابر»، والمقولة لـ «مارسيل بروست»، روائى فرنسى عاش فى أواخر القرن الـ ١٩ وأوائل القرن الـ ٢٠ فى باريس.
وترمز رؤية المقبرة فى المنام إلى الأمن للخائف والخوف للآمن، هكذا ثبت فى يقين المصريين احترام، بل قدسية المقابر.
قضية «جبّانات الموتى»، التى تشغل الفضاء العام وتثير صخبًا، تحتاج إلى وقفة حكومية رشيدة تعقل اعتراضات المثقفين ورفض المفكرين وحيرة الطيبين.. وعليها (على الحكومة) مراجعة المختصين وتحكيم الرأى العاقل السديد.
استمرارية عمليات الهدم التى لا تبقى ولا تذر من تراث روحى يتعيش عليه عموم المصريين، إنها لكبيرة.. نحن شعب يبنى لآخرته مقبرة وهو يسكن شقة العمر المديد.. سلو بلدنا من أيام الفراعين، المقبرة مفخرة.
لا أحد ضد البناء والتعمير، فقه العمران أسسه الفراعين، ولا ضد العصرنة والتحديث والتطوير، ولا حتى إخراج المقابر خارج الكتلة السكانية باتجاه الصحراء كما كان يفعل الأجداد من آلاف السنين، الصحراء فيها متسع.. فقط، يمكن تخطيط مسبق لمقابر محترمة، بديل معتبر وتعويض لأصحاب المقابر القديمة.
معلوم نقل المقابر مخطط قديم عطّلته طويلًا اعتراضات دينية متحفظة وأخرى نخبوية واجفة، ومن ملاك المقابر أنفسهم، عضم التربة ما يربطنا بالآخرة..
الثابت أن الجبانات وتراثها ومعمارها من ثوابت الحالة المصرية، مدن الموتى لها قدسية روحية، فإذا ما دهمها بلدوزر بلا قلب، كأنه يدوس فى قلوبنا.. يقينًا، هناك طرائق أكثر حضارية من الطرق المتبعة وتثير صخبًا.
نعود سريعًا لمقترح تبناه الرئيس السيسى بإقامة «مقبرة الخالدين»، أو حسب التسمية التى تروق للمثقفين، توفر حلًا، مقبرة حديثة، مزار محترم، تُنقل إليها المقابر ذات الحيثية الوطنية والدينية والحضارية، مقبرة تخطَّط على مستوى يليق بوطن عظيم الحضارة، تحافظ على رفات الأجداد ممن سبقونا إلى الدار الآخرة، بعد أن تركوا فينا إرثًا مقدرًا لا تذروه رياح التطوير.
صحيح الحى أبقى من الميت، والجبانات تحتل مساحات ضخمة فى قلب العاصمة القديمة التى ضاقت بسكانها.. ولا تثريب عليهم.. ولكن هناك طرائق متبعة عالميًّا فى نقل مثل هذا التراث الروحى مع الحفاظ على الطابع التراثى.
عملية تخصصية يقوم عليها مختصون، ويقف عليها متخصصون، وتتابعها نخب من التى تقدِّر التراث الروحى حق قدره.
القضية ليست مزايدة سياسية فى الفضاء الإلكترونى، ولكنها ضرورة مجتمعية مستوجبة، وشراكة المجتمع المدنى مع الحكومة فى رسم مستقبليات التراث الروحى والحضارى للمصريين توفر قدرًا من الرضا العام، وهو ما ينقص النقلة الحضارية المخططة.
استمرارية تنفيذ مخطط الهدم يورثنا حسرة ما ضاع من تراث حضارى لا يعوض، والحفاظ على ما تبقى نعض عليه بالنواجذ.. صحيح أهملنا طويلا العناية بهذا التراث الحضارى، ولكن الإهمال لا يبرر الهدم، وحالة المقابر الآيلة للسقوط لا تبرر إزالتها هكذا عنوة بالبلدوزر.
المثقفون عندهم حق، لا يمارون فى مخطط التطوير، ولكنهم واجفون على البقية الباقية من تراث الأجداد الحضارى، والنِّقاش الجمعى دليلٌ على موقع هذا التراث من المخزون الحضارى الوطنى.
«احتراز وجوبى.. وصيتى لولدى أن يسلم الأمانة إلى أهلها، وأدفن فى مقبرة الأسرة فى بلدتنا الوادعة منوف وسط الدلتا، حتى أأتنس بالأحباب فى الرحلة الأخروية.. خلاصته لا ناقة ولا جمل ولا مقبرة تخصنى فى جبانات القاهرة القديمة».