«وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» (الإسراء ٨٥).
تمثلت الآية الكريمة، وأنا أطالع فتحًا علميًّا عالميًّا طال انتظاره، لعله الأعظم علميًّا منذ بدء الخليقة حتى ساعته.
نجح نحو ١٠٠ عالِم أمريكى فى فك باقى شفرات خريطة «الجينوم البشرى»، الكتاب الوراثى، ونشر أول خريطة كاملة للمادة الوراثية البشرية، وذلك للمرة الأولى التى تتم فيها معرفة تسلسله بالكامل، كما يقول الباحثون.
إنجاز علمى يوفر نظرة شاملة للحمض النووى الخاص بالبشر، مما يساعد فى فهم أفضل للجسم البشرى والطفرات والتحورات المُسبِّبة للأمراض، ما يفتح أمام البشرية فرصة للتوقِّى من جملة أمراض وراثية حيّرت العلماء طويلًا.
ابتداء، الجينوم البشرى Human genome، هو كامل المادة الوراثية المكونة من الحمض الريبى النووى منزوع الأكسجين، والذى يُعرف اختصارًا بـDNA، ويحتوى الجينوم البشرى على ما بين ٢٠- ٢٥ ألف جين gene (المورثات)، موجودة ومرتبة على هيئة ثلاثة وعشرين زوجًا من الكروموسومات (أو الصبغيات).
وفى نواة الخلية يوجد نوعان من الكروموسومات. النوع الأول هو الكروموسومات الجسدية (somatic) وعددها ٢٢، والنوع الثانى هو الكروموسومات الجنسية (X وY)، التى تحدد الجنس من ذكر أو أنثى.
تحمل تلك الجينات (المورثات) جميع البروتينات اللازمة للحياة فى الكائن الحى. وتحدد هذه البروتينات- ضمن أشياء أخرى- هيئة الشخص، وطوله، ولون عينيه، وهكذا، إلى جانب كيف يستقبل metabolize جسمه الطعام أو يقاوم العدوى، وأحيانًا تحدد حتى الطريقة التى يتصرف بها. ويختلف حجم الجينوم وعدد الجينات بين الكائنات الحية.
الخميس الماضى، نشر علماء أول خريطة كاملة للجينوم البشرى مُكمِّلة جوانب منقوصة فى جهود سابقة، تقدم أملًا جديدًا فى مجال البحث العلمى عن دلائل بخصوص الطفرات والتحورات المُسبِّبة للأمراض والتنوع الجينى بين ٧.٩ مليار إنسان يسكنون العالم.
الفتح العلمى العظيم يُكمل ما بدأه باحثون كانوا قد كشفوا النقاب عام ٢٠٠٣ عما وُصف آنذاك بأنه التسلسل الكامل لخريطة الجينوم البشرى. لكن لم تُفك شفرات نحو ثمانٍ فى المائة منها بالكامل، ويرجع ذلك أساسًا إلى أنها تتكون من أجزاء شديدة التكرار من الحمض النووى يصعب ربطها بالباقى. وحلّت مجموعة علماء ذلك فى بحث نشرته دورية «ساينس» العلمية.
البحث أُعلن عنه بشكل أولى العام الماضى قبل العملية الرسمية لمراجعة النظراء. وقال «إريك جرين»، مدير المعهد الوطنى لأبحاث الجينوم البشرى، التابع للمعاهد الوطنية الأمريكية للصحة، فى بيان: «إيجاد تسلسل كامل للجينوم البشرى يمثل حقًا إنجازًا علميًّا مذهلًا، إذ يوفر أول نظرة شاملة لمخطط الحمض النووى الخاص بنا».
المعلومات الجوهرية فى هذا الفتح العلمى الجديد ستُعزز الجهود العلمية المبذولة لفهم جميع الفروق الوظيفية الدقيقة للجينوم البشرى، والتى بدورها ستُمكِّن من الدراسات الجينية للأمراض البشرية، وكما يقول «مايكل شاتز»، باحث فى الفريق العلمى، أستاذ علوم الكمبيوتر وعلم الأحياء فى جامعة «جونز هوبكنز»، إن معرفة الاختلافات الجينية يمكن أن تسمح للأطباء أيضًا بتصميم علاجات أفضل.
يبدو أن البشرية على موعد مع حياة بلا أمراض مستعصية، حياة بدون سرطانات تهددها بالفناء، سيجد المُعذَّبون بمرض الألزهايمر علاجًا، ومرضى باركنسون- وهو اضطراب مترقٍّ يصيب الجهاز العصبى ويؤثر على الحركة- فرصة للتمتع بالحياة دون إعاقة. يا لَه من فتح علمى يستحق جائزة نوبل فى العلوم الطبية.