بقلم - حمدي رزق
عندما تطغى الحسابات السياسية البغيضة على الإنسانيات، فهذا من قبيح الحسابات، توفى الدكتور «جهاد عودة» وحيدا، كان لوحده تماما لأكثر من عام تقريبًا، فتطوع أحدهم بالشماتة، باعتباره مغسل وضامن جنة، حد عارف بأى أرض يموت، «وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (لقمان / ٣٤).
الله سبحانه وتعالى عليم خبير، فلا يخفى ما فى التألى على الله من الجهل به تعالى، وبما اتصف به سبحانه من حلم، وسعة رحمة، ومغفرة، وما فيه من سوء الأدب مع الله تعالى، فلا تزعم علما ولا خبرة، ولا تشمت فى الموت، النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك».
يقول الحزين، «فى داخلى: بقايا راحلين وقلب ينادِى الغَائبين.. لطفًا بنا فقد أرهقنا الحَنين»، رحمة الله عليه أخلص فيما يعتقد أنه صوب، ولكل حساباته السياسية، ولكن فى الحسابات الإنسانية، رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اذكروا محاسن موتاكم، وكفُّوا عن مساويهم»، فكفوا عن الرجل أذاكم فى قبره، وتذكروا محاسنه، وكان طيبا راقيا، يقابل الإساءة بقهقهة عالية، حتى لا ينجر إلى معارك جانبية تحرفه عن طريق رسمه لنفسه.
أكتب مبتئسا من حالة الفقر الإنسانى المسيطرة، «شذاذ الآفاق» أطبقوا على الأنفاس، و«شاذّ الأفق»، مصطلح تحقيرى لغويا، أصبح معتادا مع كل رحيل، ويصف مجموعة من البشر الغرباء المتصحرين إنسانيا.
نحِّ العقورين جانبا، دعهم فى غلهم يعمهون، لا محل لهم فى ركب الإنسانية، الخيرون كثر، لسه الدنيا بخير، ومن الطيبين الشاعر الكبير «زين العابدين فؤاد» الذى أفزعه موت الرجل وحيدا، فطفق يغرد حزينا، رقة شاعر لم تلوث فطرته الإنسانية ثارات سياسية.
يرحمه الله، الدكتور جهاد، كان لطيف المعشر، يتشوق للقاء الأحبة، ويبحث عنهم، ويناغشهم إنسانيا بصوت جهورى.. لو قرأ المرحوم ما كتب عنه بعد رحيله من كلمات طيبات، لمات سعيدا هانئا.
أفة حارتنا النسيان، ننسى فلا نأسى، ننسى الأحباب فى لجة موج الحياة، لا سؤال ولا ود، ولا مودة، نعيش فى صحراء أنفسنا،لا عطف فيها ولا حنان.
وَتَوَاصَوْا بالمودة، وسائل التواصل الاجتماعى باتت وسائل التباعد الاجتماعى، تمر بنا الأفراح والأتراح فحسب مجاملة برسالة باردة، لا تغنى ولا تشبع من جوع للحميمية، للتواصل الإنسانى الذى يشيع الدفء فى الأوصال المتسيبة من فرط البرودة والاغتراب.
الوحشة سكنت البيوت، العنكبوت عشش على القلوب، الونس حياة، مضاد للاكتئاب الذى بات مرضا سريا يهدد حيوات البشر.
البعض يموت قبل أن يموت، موت بطىء من قسوة الصقيع الإنسانى، لا حد حاسس بحد ولا حد شاعر بحد، غربة فرضت علينا قسرا.
البعض يمضى ساعات طوالا أمام شاشة الموبايل فى عبثيات عصبية، ولكنه لا يتعطف ولا يتحنن بكلمة حلوة، ضنين، شحيح بالعواطف، صحراء رغم كثافة البشر من حولنا، صدق من قال كل هذا العالم من حولى لا أحد، الله يرحمك يا دكتور جهاد رحلت وحيدا!!.