موجة بلاغات تتحدث بها المانشيتات الإلكترونية، نشهد بوضوح ظاهرة «عودة المحتسب» التى كنا لفظناها قبلًا، والمحتسب والحسبة من مخلفات عصر مضى، عشنا عصرًا كان المحتسب (وعادة غاوى شهرة) يظهر فى قاعات المحاكم متكئًا على عصا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.. ليلهب ظهورنا تكفيرًا.
ليس دفاعًا عن «نقيصة أخلاقية»، ولكن الخشية كل الخشية من عودة المحتسب فى طور جديد، اهتبال الحق فى التقاضى، والتشهير بالناس، ووضعهم أمام القضاء متهمين بارتكاب الكبيرة، والسعى إلى سجنهم، بعد فضحهم فضيحة الإبل.
السؤال: من أعطى الحق لهذا أو ذاك لترهيب المجتمع بسيف الفضيلة، والوقوف من الخلايق موقف المدعى، وإحالة من تسول له نفسه أن يتنفس حرية إلى متهم فى القفص؟.
صحيح تحريك الدعوى العمومية من حق النيابة، ولكن الحركة الدؤوب لجماعة المحتسبين الجدد جديرة بالتوقف والتبين.
التوقف لتبين من وراء هذه الموجة من البلاغات التى تتشح برداء الفضيلة، ومن هو محركها الفعلى، لا أهضم فقط كونها بلاغات للشهرة، أذهب بعيدًا إلى جماعات بعينها تحرك هذه الدعاوى لتقليم أظافر المجتمع وقمع الحرية الشخصية.
النهر يغسل أدرانه.. فقط دعوه يمضى، لكن أن يتطوع نفرٌ من المدعين ليشكلوا من أنفسهم رقباء متمنطقين بالعفة والفضيلة، ويعينون من أنفسهم رقباء على سلوك المجتمع، ويجرجرون من يقع تحت أيديهم إلى ساحات المحاكم، واللى ما يشترى يتفرج على ما يجرى فى مصر.. جد خطير.
القانون جعل تحريك الدعوى العمومية من حق النيابة، للجم ظاهرة «المحتسب»، الذى كان يهتبل القانون اهتبالًا ويسوم البشر سوء العذاب، كنا قد غادرنا هذا المربع المخيف، كيف عدنا إليه؟.
الآن عاد المحتسب يبحث عن فريسة يسوقها حظها العاثر للوقوع فى براثن هؤلاء المحتسبة، ليثيروا زوبعة، ويقبّحوا البشر، ويشقوا القلوب اطلاعًا على النوايا.
وحتى لو انتصر القضاء للحريات، يبقى التفكير الحر نهبًا لفزاعات التكفير، ودوامات التقبيح، ويتحول إلى هدف ثابت ولوحة نيشان لكل مَن فى نفسه مرض، مازورة الأخلاق صارت حِكرًا على نفر من المتبضعين ببلاغات لا تكلف كثيرًا، ولكن تخلف كثيرًا من القلق على الحريات الشخصية، وفى القلب منها حرية الإبداع.
بعد ثورة يناير برزت ظاهرة «المحتسب السياسى»، الذى لم يترك مسؤولًا فى مصر إلا وجرجره إلى النيابة بجملة اتهامات، أغلبها تمس الذمم المالية لشرفاء عاشوا أيامًا سودة حتى ثبتت براءتهم بعد إدانة مجتمعية مخيفة تأسيسًا على بلاغات ثأرية.
سكتنا على هذه البلاغات نكاية وثأرية فى نظام سقط بفعل فاعل، سكوتنا أغرى بالمزيد من البلاغات، ونحن عنها غافلون، ودارت الدائرة على المصفقين والمهللين، نفس الوجوه التى طاردت عصر ما قبل الثورة هى التى تقفت عصر ما بعد الثورة، وصار الكل ما بين فاسد وخائن، إلا من رحم ربى.
نفس الوجوه القبيحة بعد أن فرغت من السياسة عادت سيرتها الأولى تتعقب المجتمع، تحمل عصا النهى عن المنكر، ليس بعيدًا أبدًا عن دعوات عقور تطل من دغل المتطرفين بعيدًا عن سلطة الدولة والقانون، واحتفت المواقع الإلكترونية بوجوه هذه الدعاوى التى لفظها المجتمع، فلم تجد أرضًا خصبة تنبت فيها أشجار الشوك.
اهتبال القانون على هذا النحو، ويصير العنوان العريض «الحرية فى المحكمة»، هذا يورثنا الخوف والخشية من تمدد الظاهرة، ظاهرة «المحتسبون الجدد»، وأُكلنا يوم أُكل الثور الأبيض، عندئذ سيكون الأمر خطيرًا.