بقلم : حمدي رزق
حتى فى رحيله شيك.. أنيق، يخبرنا برحيله، بصوت خفيض، ببوست قصير على (فيس بوك)، يهمس: «البقاء والدوام لله تُوفى إلى رحمة الله الأستاذ حلمى التونى وصلاة الجنازة فى مسجد مصطفى محمود».
لم يشأ طيب الذكر أن يزعجنا برحيله، أو يقلق أحبابه فى أيامه الأخيرة، قضاها بين عرائسه الملونة، وربما تلهى عن ملاك الموت برسم عروس ادخرها زمنًا.
مصر قبلة العشاق تنعى عاشقًا متيمًا، وما ميز لوحات الفنان الكبير «حلمى التونى» كان الروح المصرية المهيمنة والمسيطرة التى تسرى فى خطوط لوحاته ومفرداته من لحم ودم مصرى، أبدع فى رسم مصر، ولا تزال لوحاته على أغلفة الكتب، وعلى حوائط الصالونات، شاهدة على ملهم استلهم عناصر الحالة المصرية، وانتقى منها الملامح المبهجة، مصر عنده جميلة الجميلات، وحلوة الحلوات.
مصر كانت ولا تزال مهيمنة حتى فى طقس رحيله المفجع، اتجمعوا العشاق يودعونه خير وداع، مصر فى خيال التونى صبية عبقة الرائحة، ذات قدّ ميّاس، وعيون كحيلة، وابتسامة تشع من وجه قسماته فرعونية.
مصر فى معجم التونى التشكيلى حالة بهجة، سواء كانت فرعونية أو ريفية أو بنت بلد، سواء أمسكت
«أرغول» تعزف عليه، أو متحزمة من وسطها تزرع وتقلع فى الغيطان الخضراء، أو جيكوندا مصرية ذات ابتسامة شفافة فى برواز معلق على حائط فى صالون بيت مصرى دافئ.
من حسنات التونى، وفى ميزان حسناته، معرضه الفيسبوكى الدائم فى الفضاء الإلكترونى، حيث كان يعرض لوحاته على صفحته التى تشبه الجاليرى الإلكترونى يطالعها الأصدقاء والمحبون، قطع فنية مشغولة من «أرابيسك» هذا الوطن المعشق، وألوانه فى خضرة الغيطان النضرة، وزرقة السماء، ويمام أبيض يطير فرحًا بالنور.. ومنديل بأوية مشدود على الرأس منحسر عن قصة سوداء فاحمة، ودلاية على خصر نحيل، وأساور وخلاخيل، زخرفة راقية منضبطة لا زيادة فيها ولا نقصان، مصر كانت عنده عالية فوق النخيل.
ما قدمه التونى من أعماله فى مناسبات وطنية ومجتمعية وإنسانية تروى قصة الأمس، تخلب اللب، تسرى فيها روح مصرية تأسرك وتُوقعك فى شباك أم عيون جريئة.
هذا محض تعبير محب عن إبداع مبدع غادرنا للتو، ولكن التونى عند التشكيليين حالة تشكيلية متفردة، فى أفكاره الوطنية العاشقة لكل ما هو مصرى، وألوانه من بالِتّة فرعونية مثلها ألوان فى مقابر الفراعين، وموتيفاته المستوحاة من الحالة المصرية المسيطرة على أعماله ميزتها تمامًا، دون خط غربى يتسلل إلى لوحاته.
والتونى يستحق الحفاوة حيًّا وميتًا، ليس لأنه فنان مرهف فحسب بل لأنه إنسان، ويمارس إنسانيته فى لوحاته وتعاملاته، كان محبًّا للمواهب تتفتح فى حديقة الوطن، ويكره المتحذلقين، ويأنف المنافقين المتكبرين.. عزة نفسه كانت تاجه فوق رأسه.
خسارته جد خسارة وطنية، كان غيورًا على أغلى اسم فى الوجود، وتعبيراته السياسية قاطعة، حادة أحيانًا، مع ابتسامة تلون قسماته تزيدها تصميمًا على الرفض، من مدرسة غارقة فى طين الحارة المصرية، وطينها الزالب (الطرى كالحلوى) المسقى بماء النيل العذب.
سألنى طيب الذكر، وقد فرغ لتوه من قراءة سطور متواضعة كنت كتبتها عنه: لماذا تكتب عن التونى؟.. قلت: لأنى أكتب عمّن أحب.. الله يرحمه كان محبوبًا.. ومَن يحبه ربه يُحبِّب فيه خلقه.