لأبى فراس الحمدانى بيت شعر بديع: «ومنْ مذهبى حبُّ الديارِ لأهلها.. وَللنّاسِ فِيمَا يَعْشَقُونَ مَذَاهِبُ».
بين دفتى هذا الكتاب، (محطات فى حياة رجل الصناعة نادر رياض)، ترجمة لهذا البيت، مسيرة حياة، مراحل عمرية، ومحطات فارقة، أحداث من دم ولحم، حافلة بالتفاصيل الصغيرة التى ترسم لوحة حياة صاحبها العريضة.
حياة فى عقود مرت وسنوات وشهور وأيام، كل يوم يرسم غده، وكل عام يراكم على أعوام، وكل عقد يضيف منجزًا فى بناية عنوانها «انتصار الحياة» لمَن يمكن تسميته «صديق الحياة».
من شرفة الثمانين يطل علينا صاحب المذكرات، «د. نادر رياض»، بخبرة حياتية، مغلفة بالإنسانية، فيها عبر ودروس وطنية.
صاحب السطور رجل وطنى بامتياز، وعنوانه الأثير من عنوان أمير الشعراء «أحمد شوقى» فى قصيدته الخالدة «وطَنى لَو شغِلتُ بِالخلدِ عَنهُ لنازَعَتنى إِلَيهِ فى الخلدِ نَفسى».
هكذا يعيش الوطن، ويتنفسه، ويملأ رئتيه من عبيره، ويراه ملونًا بألوان العَلَم المصرى الذى يلقى ظلاله على صفحة نيله هناك فى مسقط رأسه على شاطئ النيل فى «كفر داوود» بمحافظة البحيرة.
يخشى البعض تدوين مذكراتهم، والبعض يدخرها إلى حين، وهذا حقهم، كتابة المذكرات تحتاج إلى جرأة، ونشرها إلى شجاعة، صاحب هذه الذكريات، الدكتور «نادر رياض»، يدون سطور حياته بتواضع ومحبة وصدق وصراحة.
يرصد العثرات، ويتأملها، وكيف تغلب عليها، ويُذكِّر نفسه ويُذكِّرنا بالأيام الخوالى فى نسق فريد يجمع ما بين (الصوفية) التى تلون حياته، والعلمية الصناعية التى تخصص فيها.
صَموت نادر، نادرًا ما يتكلم، مذكراته أو ذكرياته تكشف عن حكّاء يقف على التفاصيل والأماكن والأزمنة، يُوردها بتفاصيلها الدقيقة، ويُرجعها إلى أصلها، ويُمحص فصولها، فتخرج من مخبره تجربة إنسانية عميقة، حافلة بالدروس والعبر الإنسانية المدهشة. تواضع صاحب المذكرات يُلون الصفحات.. وفخره بالعائلة، وتبجيله لمعلميه، وإخلاصه لإرثه الثقافى كلها سطور تقول الكثير.
نموذج ومثال للمواطن المصرى المسيحى الأرثوذكسى الذى يحفظ الآيات القرآنية، ويداوم على حضور حصة الدين فى المدرسة، هو نفس الإنسان النقى الذى لا يفرق بين محمد وجورج بين عمال مصانعه، ويتقفى مقولات الإمام «على بن أبى طالب»، وكأنه شيخه.
تجربة الشاب المصرى الذى لم تبهره أضواء المدينة (القاهرة)، ولم تندهه النداهة الأوروبية (برلين)، إحساس راقٍ بالتميز يُلازمه، يمنحه ثقة بالنفس التى هى أكسير النجاح فى مهمته الحياتية.
الإنسانيات فى هذه المذكرات لا تطغى على التواريخ المهمة، ولا الأحداث الكبيرة التى عاصرها وعاشها بكل جوارحه، صاحب المذكرات صاحب موقف واضح مع فراسة فطرية تُعينه على الخطو الصحيح تجاه البشر والأحداث.
ودومًا يلتمس العذر للآخر.. متمثلًا القول المأثور: «التمس لأخيك سبعين عذرًا»، وهذا عن خبرة حياتية متجذرة فى التربة المصرية الأصيلة، المصريون يلتمسون الأعذار فى أريحية إنسانية مدهشة.
فصول هذه الذكريات (المحطات الحياتية فى حياة رجل الصناعة نادر رياض)، أقرب إلى سيرته الذاتية، لنقل ما تيسر من سيرة «آل رياض»، وما تيسر ليس بالهين أو اليسير، بل يحمل أفكارًا وقضايا تشكل محطات مفصلية فى تاريخ وطن عظيم، وطن يعيش فينا ولا نعيش فيه، وطن يحمل أغلى اسم فى الوجود.
صفحات المذكرات لا تحمل فخارًا شخصيًّا بقدر ما تحوى عبرًا وعظات وإلهامًا فريدًا، وعطاء متصلًا، درس للشباب الراغبين فى استبطان التجارب الحية لإحداث النقلة الضرورية فى مسيرة الحياة.