بقلم - حمدي رزق
فى مشهد أبكى العالم، ظهر «الدحدوح» عبر فيديو حزين، وهو يحتضن جثتى زوجته وابنه الكبير.. ويبكى، ثم ظهر وهو يحمل ابنه الصغير ويتمتم: «إنا لله وإنا إليه راجعون»، ومع توالى الفقد، ابنته، حفيده، كاد يسقط من هول الصدمة.
الصرخات والنحيب تصم الآذان من حوله، وهو يقلب كومة الجثث كالمجنون، لعله يظفر بأحد من أهله لم يلقَ حتفه، وجثا ذاهلًا على جثمان حفيده، تقريبًا فقد النطق، فلم يقوَ على الصراخ.. حتى الدموع أبت.
صورة «وائل الدحدوح»، مراسل الجزيرة فى غزة، وهو يعاين مصابه الفادح، ويُحصى خسارته، تقطع نياط القلوب.
الدحدوح رجل المهام الصعبة، أصابته قذيفة مباشرة، فى القلب، طوال أيام المجزرة، يظهر على الشاشة ثابت الجنان، لا تهزه انفجارات، ولا يُتعتعه قصف صواريخ، كان الدحدوح يصف القذيفة تمر فوق رأسه دون أن تهتز أعصابه، متمالكًا قواه ليصف لنا المشاهد البربرية، التى عجزت عن وصفها كتب الوحشية فى سالف العصر والأوان.
المتوحشون ينتقمون من الدحدوح، صوت المنكوبين فى غزة، تخيل الدحدوح وهو يصف قصف المدنيين وسط المدينة، لم يكن يدرى أنه سيحمل فى التو واللحظة جثث أهله، وحدث.
سبحان الله، ظل الدحدوح يُشيع أطفال غزة بصوته المبحوح، وهو ينزف دمعًا، وجاء دوره ليشيع فلذات كبده، سبحانه، نعيش ونحيا على أمل حين يحم القضاء أن يوسدنا الولد التراب بيديه.. راحة، نتمناها قبله، ليس بعده، نتمناه فى حياته، لكن مشيئتك سبحانك تقدر الأقدار.
مجزرة آل الدحدوح عنوان مخضب بالدماء من عناوين غزة المذبوحة، الدحدوح الشاهد الحى على جرائم الاحتلال الصهيونى الغاشم، صوت الدحدوح المبحوح سمعه العالم، سمع أنينه المكتوم.
غزة تُذبح على الهواء مباشرة، ونحن عاجزون عن الغوث، وأطفالها يُقبرون عمدًا ومع سبق الإصرار والتهديد والوعيد، مَن لم يمت من أطفالها من القصف سيموت من الجوع والعطش، ومَن يفر حذر الموت يأتيه الموت بغتة.
لماذا قتلوا حفيد الدحدوح فى المهد صبيًّا، لماذا يقتلون الأطفال؟!، لأنهم وحوش جُبلوا على البربرية والوحشية، حتى التوحش يمكن إدارته، إدارة التوحش، ولكن الوحوش الإسرائيلية فكّت من عقالها، جُنَّت تمامًا، فجبنت عن المواجهة، فاستدارت فى خسة تقتل المدنيين العزل، تدفنهم تحت الأنقاض.
دم حفيد الدحدوح المغدور سيشهد على وحشية لم تُرَ قبلًا، حتى تاريخ الوحشية يتوارى خجلًا أمام بربرية جيش الاحتلال، وحشية نتنياهو ستُضم إلى مذابح سبقت، من مذبحة بغداد إلى مذبحة «نانكينج» الصينية، وبينهما مذابح عبرت لطخت تاريخ الإنسانية بعار لم تغسله مياه المحيطات، ومنها مذابح الأرمن، وستُخلف مجاعة كمثل مجاعة هولودومور الأوكرانية فى النصف الأول من القرن العشرين.
فى وصف هول ما جرى، سيدون التاريخ فى صفحة سوداء لمجزرة غزة، وسيظل التاريخ الإنسانى يتوارى خجلًا من هولها، أيقظت مجزرة غزة أسوأ كواليس البشرية المطمورة تحت مزاعم الحضارة والتحضر، يرتدون رابطات العنف السوداء كذبًا فى مأتم غزة.
دم حفيد الدحدوح المسفوك سيشهد عليهم يومًا، سيشهد على البربرية والوحشية، سيضع العالم أمام ضميره، للأسف إذا كانت هناك لا تزال ضمائر حية فى الغرب، الذى يستخدم «حق الفيتو» حتى يُعمل جزار القرن سكينه القذرة فى بقية رقاب أطفال غزة.