بقلم : محمد أمين
رحم الله الأستاذ عباس الطرابيلى شهيد الكورونا، وآخر جيل الآباء المؤسسين لمدرسة الوفد الصحفية.. نعم كان الوفد مدرسة فى الوطنية والحريات وحقوق الإنسان.. أتحدث عن الوفد حزبًا وصحيفة.. كما كان يحلو له أن يقول.. وربما كان الراحل الكريم يحب أن يرى ما أكتبه عنه فى حياته ولكنه فارقنا ولم أفعل، فقد كنت أخشى أن يعد ما أكتبه رثاء وهو مازال يملأ الدنيا كتابة وتنويرًا وحياة!.
وربما يستغرب البعض أن الأستاذ عباس كان يكتب فى أمرين وأجادهما، وهما التاريخ والطبيخ.. وكنت حين أسمعه يشرح أشعر بالجوع وأقول له، فيقول «ابلع ريقك».. رحم الله شيخًا من شيوخ الصحافة دافع عنها وتكيف مع كل ظروفها، وكانت آخر كلماته عن الرقيب الذى كان يقيّد الصحف فى عصر عبدالناصر.. حتى جاء السادات وألغى الرقابة وعيّن رؤساء التحرير رقباء، فنشأت الرقابة الذاتية!.
والتفسير عندى فى كتابته للتاريخ والطبيخ أنه كان يهرب حتى تعدى الموجة.. ونحن نعرف أن الصحافة عاشت موجات سياسية وتأثرت بها.. وقد كنت أتكلم معه فى الفترة الأخيرة بين وقت وآخر كنوع من الاطمئنان أو الاستئناس برأيه، فيقول أنا تركت لكم السياسة وذهبت للتاريخ لأكتب براحتى!.
وكنت أقول له والتاريخ كله سياسة، فيقول تستطيع أن تتحايل يا مولانا وتقول كل شىء.. وأعترف بأنه كان ذكيًا ليّنًا يعرف كيف يتعامل مع الناس والأحداث، دون أن يعكر صفو حياته شىء، وكنت أفكر فيما يفعل وأتوقع له أن يعيش طويلًا، لأنه لا يحمل فى نفسه شيئًا، ويأكل ما يشاء!.
ولا أنسى حين كتب مقاله صبيحة وفاة فؤاد باشا «مات الباشا عاش الوفد»، وكان معناه أن نفكر فى الوفد، وكان أول من انحاز إلى الدكتور نعمان جمعة، فانفرد برئاسة تحرير الوفد، بعد أن كانت رئاسة الوفد مشاركة مع الكاتب الراحل سعيد عبدالخالق.. الذى أقاله الدكتور نعمان فى أول يوم لفوزه برئاسة الوفد.. وعبر الوفد من أزمته الطارئة، وجمع الأستاذ عباس شباب الوفد حوله، وأحسسنا بروح الأسرة، فالرجل يكلم بيته وأولاده أمامنا، ويطلب بعض الطعام من البيت القريب منا، ويقدمه للحضور بلا استثناء!.
وكان ينتهز أى فرصة ليشرح لنا فكرة تأسيس الوفد، ولماذا مكّنه الباشا من الإشراف المالى والإدارى على الصحيفة؟.. وكان أمينًا على أموال الوفد، يقتصد فى صرفها كدمياطى.. ومات الباشا والوفد له ودائع كبيرة فى البنوك.. وكان الاقتصاد عند «الطرابيلى» يرتبط بحياة الناس، ويذهب إلى سوق سليمان جوهر ويرجع يكتب عن الطماطم والبطاطس وكنت أسأله عن ذلك، فيقول: الصحافة هى ما يهم الناس، وظل على هذا المفهوم حتى آخر أيام حياته.. يهتم بالأسعار والدولار، ويرى أن الصحافة الإنسانية والاجتماعية ممكنة، ويكتب عن المطبخ ببراعة لافتة لجمهور قرائه من النساء!.
ونجح فى إيجاد مساحات أخرى له ككاتب يومى، خارج الإطار المعروف فلجأ إليها، كلما علت الموجة ذهب إلى التاريخ والمطبخ!.