بقلم : محمد آمين
منذ زمن بعيد لم أسمع هذا الهتاف «الصحافة فين؟».. كان الرأى العام يثق فى صحافة بلاده، ويعرف أنها ملاذه، حين لا يكون له ملاذ.. وكان صوت الناس لصانع القرار.. عثرت على فيديو صغير.. كان طلاب طب الأسنان بجامعة دمنهور فى قاعة المحكمة يطالبون القضاء برد الاعتبار.. حيث كانوا يتدربون فى الزرائب المحيطة بالجامعة على «أسنان الجاموسة»!.
فلم أصدق عينى ولا أذنى مما سمعت.. ورحت اسأل: متى كان هذا؟.. هل انشغلنا بالسياسة عن كل شىء فى بلادنا؟.. هل تركنا التعليم يضيع، ونحن نجرى وراء سراب؟.. كيف يمكن الموافقة على كلية طب بلا تدريب؟.. كيف يسمح العميد ورئيس الجامعة بتدريبهم فى الزرائب المجاورة؟.. هل أسنان الإنسان مثل أسنان الجاموسة؟.. أين «الضمير العلمى» لهؤلاء؟!.
ويبدو أن هذا الفيديو قد قلّب علينا المواجع.. كيف يحدث هذا فى جامعة حكومية؟.. وكيف تمت الموافقة على الكلية وطرحها فى تنسيق طلاب الثانوية؟.. وكانت هيئة المحكمة أكثر حسمًا من الوزير ومن رئيس الجامعة وأصدرت حكمًا تاريخيًا بإغلاق الكلية وتحويل الطلاب على أربع جامعات، وإحالة المسؤولين للتحقيق الجنائى.. فتم نقل الطلاب فقط دون تحقيق!. فهل تعلم أن رئيس الجامعة صاحب الواقعة الشهيرة مازال يدير الجامعة بنفس المنطق؟.. هل تعلم أنه باقٍ فى منصبه حتى الآن لم يمسسه سوء؟.. هل تعلم أنه أطاح بنصف أعضاء هيئة التدريس خشية أن ينافسوه فى أى ترشيح جديد لرئاسة الجامعة؟.. فأين الأجهزة الرقابية؟.. ومن الذى يحمى هذا الرجل، مع أن واقعة التدريب على الجاموسة كفيلة بالإطاحة به؟!.
وفى رحلة البحث عن تفاصيل القضية، علمت أن وزير التعليم العالى كان الدكتور السيد عبدالخالق، وقرأت الشكاوى التى رفعها الطلاب أيامها قبل اللجوء للقضاء.. وعلمت أن رئيس الجامعة أيامها مازال هو رئيس الجامعة الآن، وهو الدكتور عبيد عبدالعاطى صالح.. وعلمت أن القاضى العبقرى الذى أغلق الكلية هو المستشار محمد خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة!.
وصفت المحكمة تدريب الطلاب على أسنان الجاموسة بأنه عبث وظيفى، وجُرم جنائى، وإثم تأديبى، وكارثة على التعليم فى مصر.. ودعت المحكمة رئيس الجمهورية لمحاسبة رئيس الجامعة، وقررت نقل الطلاب فورًا إلى جامعات الإسكندرية وطنطا والمنصورة وكفر الشيخ، وتشكيل لجنة للتحقيق فى الكارثة.. المفاجأة أنه لا شىء حدث، وبقى الرجل فى منصبه الرفيع (!).
وهنا تذكرت حكاية تشرشل والقضاء، فقد قرر القاضى نقل المطار الحربى بعيدًا عن العمران، لأن صوت الطائرات يزعج طلاب المدرسة.. وقال تشرشل «خير لنا أن نخسر الحرب من أن يقال إننا لا ننفذ أحكام القضاء».. وباختصار، فإنه لا يحمى هذا الوطن إلا صحافة حرة وقضاء عادل.. الصحافة فين؟!.