الرياح السياسية التي صاحبت نهاية العام المنصرم حملت الكثير من ملامح التغيير في التعامل مع عدد من الصراعات المستمرة منذ سبع سنوات، وتشير في مجملها إلى أن العام الجديد قد يكون عام الحسم بالنسبة لكلها أو بعضها، فالمؤشرات التي لاحت في الأفق خلال الأسابيع الأخيرة تدعم التوجه حيال عدم التمادي في الصدامات المباشرة.
القوى الفاعلة أدركت أن حلول الأزمات من الصعوبة أن تأتي عبر الأدوات العسكرية وحدها، ومن الضروري أن تكون هناك رؤى سياسية تراعي التوازنات على الأرض، من دون رضوخ لتقديرات مسبقة وحسابات تقوم على مصالح ضيقة.
مهما يبلغ الإفراط في القوة الباطشة فلن تتمكن قوة واحدة من وضع نهاية حاسمة لأي أزمة، وربِما تفتح الباب لحلقات طويلة من العنف يصعب السيطرة عليها. هكذا الحال في كل من سوريا واليمن وليبيا والعراق، ناهيك عن دول أخرى مرشحة للانزلاق في الدائرة نفسها، إذا أخفقت المؤسسات الرسمية في علاج المشكلات مبكرا.
النتيجة المهمة التي كشفت عنها تجربة الصراع في وعلى سوريا، تؤكد محددين مهمين. الأول أن تغيير الجغرافيا السياسية بات مسألة وعرة، وكان من السهل القفز عليها خلال عقود ماضية، لكن حاليا تحتاج إلى مقومات خاصة، فالمال وحده لن يمكن أصحابه من العبث بثوابت الجغرافيا، والطموح قابل لأن يرتطم بالجموح، وحتى فكرة التنظيم الجيد والأفق الحالم والإمكانيات العالية لن تكفي لتحقيق الأهداف المرجوة.
في ظل وجود قوى وجماعات مسلحة أشد تنظيما من بعض الدول، سوف تواجه الأخيرة تحديات وعثرات كبيرة، تقود إلى تفشيل مخططاتها، ووسط السيولة الحاصلة في كثير من النزاعات تصبح عملية الهيمنة عليها تماما عصية، وتوجيهها نحو طريق معين بعيد المنال.
المحدد الثاني يتعلق بفشل تجربة الاعتماد على التنظيمات الإسلامية المتشددة، خاصة في سوريا والعراق، وفي الطريق ليبيا. ولا يعني امتلاك الكتائب والعصابات المسلحة عوامل قوة عسكرية أنها سوف تحقق أحلامها، فهذه ستظل محدودة بسقف معين، لأن الدول التي تدعم الجماعات المتطرفة سرا لن تستطيع الدفاع عنها علنا.
تراجع متعهدو وممولو داعش والقاعدة والإخوان وأقرانهم عن التباهي بأدوارهم القذرة، وإنكار دعم التنظيمات المتطرفة يشبه الابتعاد عن كرات اللهب، ولو ارتفعت شبكة المنافع مع عناصرها لن نجد الدولة التي تفاخر بالاقتراب منهم وبمساعدتهم، باستثناء حالة الإخوان التي لا تزال بعض الدول ترى فيها وسيلة لتحقيق أغراضها، لأسباب أيديولوجية أو مصلحية، مع ذلك لم تعد الجماعة ضمن أولويات بعض الدول الغربية التي درجت على احتضانها تاريخيا.
المعالم الظاهرة في المقاربات السياسية لأزمات سوريا والعراق واليمن، تؤكد أن المدخل الصحيح للتهدئة يكمن في رفع الأيادي الخارجية أولا، أو على الأقل تخفيف قبضات أصحابها الأمنية على الأوضاع الداخلية.
لعل الجهود المبذولة لكف أيادي عدد من الدول عن دعم قوى محلية في سوريا، واحدة من الممارسات التي جلبت بعض النتائج الإيجابية، كما أن التوافق النسبي حول خطورة التحركات الإيرانية في القضايا العربية أسهم في توفير أجواء مناسبة لردع طهران وغيرها عن توسيع نطاق التصرفات الرامية إلى مزيد من إرباك الأوضاع السياسية والأمنية.
العام الماضي كان حافلا بالعبر التي خيمت على عديد من الأزمات المستعصية، بينها أن الولايات المتحدة ليست معنية بالانخراط المنظم في جميع الصراعات، وقد تكتفي بوجود رمزي، وربما انسحاب شبه كامل، ما يهيىء الفرصة لقوى أخرى للصعود، على خلفية هذه التراجعات.
الصعود المتوقع سيكون من نوع مختلف، ويعتمد على عدد من الأقطاب الفاعلة، ومرجح عدم وجود قوة واحدة تتحكم في إدارة الأزمة، كما أن سبل التخريب وصلت إلى أيدي قوى صغيرة، ما جعلها رقما في بعض الصراعات، يحتاج إلى تفاهم أكثر وصدام أقل. التنوع والتعدد يسمح بتوسيع مساحة التوترات، غير أنه يمكن أن يتحول إلى حافز أو دافع نحو لملمتها، لأن كثافة الانفراط تؤدي إلى صعوبة الاحتواء في اللحظات الحاسمة، بالتالي ترك الأمور بلا تدخل لوقف انزلاقها يقود بعض الأزمات إلى استمرارها لأجل غير مسمى، ما ينعكس سلبا على مصالح قوى كبرى كانت تعتقد أن امتلاكها حق الفيتو أو الاعتراض السياسي كفيل بتحجيم الآخرين، والرفع يفضي إلى انفراجات وتمهيد الطريق للحل.
الخبرات والتجارب والنتائج التي ظهرت في أزمات المنطقة، تؤيد صعوبة تطبيق المعادلات التقليدية بعد أن دخلت معامل الاختبار وثبت فشلها، فقد انتهى زمن وضع الحل والعقد في سلة جهة واحدة، وهو ما يضعف القدرة على التحكم الصارم في مسار أي صراع، بل يمكن أن ينفتح على جهات ملفوظة، تضطر قوى كبيرة إلى القبول بها على مضض، لصعوبة نبذها أو لقدرتها على الامساك بتلابيب أمور مفصلية. وفِي كل الأحوال تأتي الحصيلة النهائية بعيدة عن هوى من تصوروا أنهم قادرون على تحقيق أغراضهم بسهولة سياسية أو عسكرية.
الأزمة الليبية كاشفة في هذا الفضاء، فمن أشعلوها لم يصبحوا قادرين على إطفائها حاليا، وأسهم تخبطهم في طرح المبادرات وعقد مؤتمرات ولقاءات بلا فاعلية، وبدت جميعها كأنها لاستنزاف الوقت، لأنهم نظروا إلى مصالحهم القريبة، واصطدمت توجهاتهم بواقع يحتاج إرادة وتصورات مختلفة، كي يتم تصحيح مجموعة الأخطاء التي قادت إلى انسداد.
العام المنصرم وضع أزمة سوريا على بداية طريق الحل، وأوقف جزءا من الإجراءات الخاطئة في العراق، ومنح أملا لنهاية الفاجعة في اليمن، وحمل نسائم إيجابية لتسوية بعض الأزمات في شرق إفريقيا، ومتوقع أن تتبلور معالم الحلول السياسية في ليبيا خلال الأشهر المقبلة، عندما يتم التخلص من سياسة الترقيع والتلفيق التي تتبعها قوى دولية، لذلك من الممكن أن نطلق على العام الجديد عام الشروع في التسويات العربية.
التسويات البازغة لا تعني انتهاء المشكلات أو انتصارا حاسما لطرف على آخر، لأن الأصعب من التسوية القدرة على تطبيقها عمليا وبناء دولة حديثة تأخذ في اعتبارها الحفاظ على تماسك مؤسساتها ووحدة أراضيها والابتعاد عن الطائفية ومراعاة المصالح الحيوية للمواطنين وتحاشي الانجرار وراء تصفية جديدة للحسابات الإقليمية.
نقلًا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع