الصعود والهبوط فى علاقة مصر بالإدارة الأمريكية، على وشك الاستقرار عند منطقة دافئة، بعد تجسير الهوة فى عدد من الملفات الإقليمية، وازدياد قناعات واشنطن بسياسة الواقعية التى تتبعها القاهرة فى القضايا التى تقترب منها.
الزيارة التى يقوم بها سامح شكرى وزير الخارجية لواشنطن، حاليا تعكس حجم التغير فى الرؤية الأمريكية حيال عدد من الموضوعات الخلافية، فى مقدمتها القضية الفلسطينية والأزمة الليبية والموقف من الجماعات المتطرفة.
التوجهات القاتمة التى تبنتها إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الفترة الماضية، دخلت عليها تغيرات لافتة، من أهم ملامحها العملية الإفراج عن 195 مليون دولار من المساعدات المجمدة منذ عامين، بعد التيقن أن سياسة العصا لن تجدي، ومن المفيد التنسيق والتعاون بدلا من الصدام والخصام، ما يفضى إلى مزيد من الخسائر الإقليمية لواشنطن.
المنطق الذى اتبعته السياسة المصرية كان سلسا وغير راغب فى وصول الخلاف إلى مرحلة اللاعودة. ووسط ذروة التباعد فى التقديرات حيال القضية الفلسطينية، كانت الرسائل تصل إلى واشنطن بدبلوماسية لا تخلو من خشونة سياسية. الأمر الذى كشفته زيارة جاريد كوشنير مستشار الرئيس ترامب، وجيسون جرينبلات مبعوثه للشرق الأوسط، للقاهرة الشهر الماضي. وقتها تلقى المبعوثان رسالة سلبية واضحة. التحفظات التى نقلتها مصر إليهما بشأن الصيغة المعروفة بـ «صفقة القرن» كانت فى الصميم، حيث تم تفكيكها سياسيا، بما يؤكد استحالة تطبيقها على الأرض، وفقا للتسريبات التى تضمنتها وهى تجرد فى مجملها القضية الفلسطينية من معظم ثوابتها التاريخية.
التوقعات كانت تشير إلى أن الرئيس ترامب عازم على طرح مشروعه للتسوية السياسية، وتجاهل الاعتراضات العربية والفلسطينية، لكن المفاجأة أن إدارته استوعبت صعوبة تطبيق الصفقة وسط الأجواء الرافضة لها. وبدأت تستمع لكثير من النصائح التى تدور فى فلك ضرورة مراعاة الحقوق الفلسطينية الأساسية، وفى مقدمتها إعلان دولة كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشرقية.
المياه المصرية المتدفقة التى مرت فى هذه القناة وغيرها، أقنعت واشنطن بإعادة النظر فى رؤيتها للسلام فى المنطقة، ومراعاة الأهمية التى يمثلها إجراء مصالحة فلسطينية وتحسين الأوضاع فى غزة والتوصل إلى تهدئة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، لتمهيد الطريق أمام مشروع التسوية.
بمعنى آخر وضع الحصان أمام العجلة، لأن الطرح الذى انطوت عليه «صفقة القرن» كان يتبنى العكس، ما ضاعف من التحديات وجعل الصفقة تفشل قبل إعلانها رسميا. بذلك كان تصويب المسار نقطة مركزية فى السياسة المصرية.
الاستدارة التى تقوم بها واشنطن فى هذا المجال، تشى بتصحيح بعض الجوانب السياسية، وعدم تجاهل التشابك الذى يكتنف القضية الفلسطينية وجعلها القضية الأم فى المنطقة. الاقتراب منها يتطلب رؤية خلاقة وليس مبادرة يعدها هواة سياسيون، مثل كوشنير وجرينبلات.
الوصول إلى هذه الزاوية، بدأت تظهر معالمه عقب تكثيف اللقاءات بين مسئولين مصريين وأمريكيين مؤخرا، فى واشنطن والقاهرة، والتطرق إلى مجموعة من القضايا محل الاهتمام المشترك، بصورة تجاوزت الحديث عن التسوية ووصلت إلى ملفات إقليمية تتطلب أيضا تفاهمات تراعى مصالح كل طرف. فالسياسة التى تتبناها مصر لن تقبل إملاءات أو شروطا.
كانت الفترة الماضية كفيلة باستيعاب دروس الانتشار والتمدد والتنوع فى العلاقات مع قوى عديدة فى الشرق والغرب. وهو ما فهمته واشنطن جيدا، وفرض عليها التريث ورفض الانسياق وراء تصورات وسائل إعلام ذهبت إلى حد المطالبة بالتضحية بمصر، طالما تحولت إلى دولة مستقلة تماما عن الإرادة الأمريكية.
ما حدث خلال الأشهر الماضية يعزز البناء على القواسم المشتركة، بما يساعد كل طرف للحفاظ على علاقات متوازنة مع الآخر، لأن جميع الأدوات، السياسية والأمنية والاقتصادية، التى استخدمتها الولايات المتحدة لم تمكنها من تحقيق أغراضها، ولم تثن مصر للتراجع عن مسيرتها فى استقلال قرارها وعدم الرضوخ لأى ضغوط أو مساومات.
التقارب الحاصل فى الأزمة الليبية بين البلدين واحد من نقاط التفاهم الصاعدة. فاللقاءات التى جرت مؤخرا، كشفت الكثير من الجوانب الغائبة عن واشنطن، بشأن ما يعتمل على الساحة الليبية، والمخاطر التى تحملها التدخلات السافرة من قبل قوى إقليمية ودولية. زيادة وتيرة الانخراط الأمريكى فى الأزمة، ظهرت مقدماته مع تعيين السفيرة استيفانى وليامز نائبة لغسان سلامة رئيس البعثة الأممية فى ليبيا، وتأكد أن هناك دولا تحاول جر الأزمة إلى مربع يحقق مصالحها دون إدراك لعمق المأزق الذى يمكن أن تؤدى إليه سياساتها السلبية.
من أهم نتائج التحول الأمريكى تخفيف حدة الصدام بين فرنسا وإيطاليا، والذى يكاد يؤدى إلى أزمات جديدة، تجعل من تسوية الأزمة حلما بعيد المنال، وهو ما نبهت إليه مصر، ضمن سياستها المعلنة «ارفعوا أيدى كم عن ليبيا أولا وفتح المجال للتسوية».
من مزايا التقارب المصرى الأمريكي، فهم الكثير من المفاتيح التى أدت إلى زيادة تعقيد الأزمة الليبية، وأبرزها توحيد المؤسسة العسكرية، وعدم الاستعجال فى إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية دون ضمانات كافية لإتمامها وتنفيذ نتائجها، وعدم تجاهل المكونات الاجتماعية التى لها غلبة كبيرة فى دولة مثل ليبيا.
الأهم الالتفات إلى التعجيل بتصفية الميليشيات المسلحة والتنظيمات المتطرفة والجماعات التى ترتدى ثوب الإسلام السياسى ويتم التعامل معها باعتبارها «معتدلة» بينما هى لا تقل خطورة عن المتطرفين ومن يحملون السلاح ويقطعون الرقاب. ناهيك عن التفكير فى سد مصادر التمويل ومراقبة المصرف المركزى ودعمه بعض الميليشيات لقطع علاقاتها بقوى سياسية ممثلة فى الحكومة الليبية ومجلس الدولة.
إذا استمر الدفء فى العلاقات، يمكن تهدئة الكثير من القضايا الساخنة، بما يتجاوز فلسطين وليبيا. فالتعاون الكامل فى ملف مكافحة الإرهاب قد ينهى الازدواجية التى لازمت الولايات المتحدة لفترة طويلة فى تعاملها بالشدة مع تنظيمات, واللين مع أخري، بينما الجميع خرجوا من عباءة واحدة اسمها الإخوان المسلمين.
الحاصل أن واشنطن لا تزال بعيدة عن الرؤية المصرية فى هذه المسألة، وبحاجة إلى إنهاء انتقايتها، وربما تكون مواقفها الجديدة من بعض القوى المسلحة فى ليبيا مقدمة لتغيير يطول جماعات الإسلام السياسى ومساواتها بغيرها من المتشددين. فى هذه الحالة يمكن تجاوز واحدة من الفجوات التى تعيق تطور العلاقات لفضاءات أرحب على المستوى الثنائى والإقليمي.
نقلًا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع