الطريقة التى تتعامل بها قيادات وكوادر جماعة الاخوان المسلمين والمتحالفين معها فى ليبيا، تؤكد أنهم عازمون على أن يكون لهم دور مهم فى الخريطة السياسية مستقبلا، بما يفوق وزنهم النسبى بكثير، فقد وجدوا فى التعقيدات التى دخلتها الأزمة ملاذا لطموحاتهم وأحلامهم وخيالاتهم، ويحاولون توظيف الصراعات والنزاعات لصالحهم، عبر اتباع مناورات مختلفة تجعلهم الرقم الصعب فى معادلة السلطة.
الأخطاء المتراكمة التى ارتكبتها قوى دولية عديدة الفترة الماضية وجدوا فيها فرصة لتعظيم مكاسبهم، وكلما سدت جهات محلية وإقليمية فرصة أمامهم لجأوا إلى قوى تتعاطف معهم أو تراهن عليهم لتحقيق أهدافهم، لأن النجاح فى ليبيا يمكنهم من تعويض خسارتهم الفادحة فى مصر منذ نحو خمسة أعوام.ولذلك تشير بعض الأطراف على الجماعة تغيير خططها والتعامل مع كل مرحلة وفقا لمعطياتها على الأرض، وهو ما جعل قياداتها لا تخجل من تناقضاتها وتمعن فى ازدواجيتها، وتقوم بالانفتاح على عصابات ومليشيات مسلحة ودوائر سياسية بعيدة عنها ومختلفة معها جذريا، لكن الجرى وراء تحقيق المصالح يحلل كل الموبقات، تحت ستار التقية السياسية.
إعلان الإخوانى خالد المشرى رئيس مجلس الدولة قبل أيام ابتعاده عن الجماعة، خطوة مسرحية تشبه ما أقدم عليه الإخوانى المصرى عبدالمنعم أبوالفتوح، عندما أعلن انشقاقه عن جماعته وكون حزبا سياسيا «مصر القوية» ترشح تحت لافتته فى الانتخابات الرئاسية، والبقية معروفة طبعا.
المشرى يريد تكرار السيناريو نفسه فى ليبيا مع تحاشى أخطاء أبوالفتوح، حيث يستعد الأول لترشيح نفسه فى الانتخابات الرئاسية المقبلة وخداع خصومه ومناوئيه، مع احتمال ترشح القيادى الإخوانى على الصلابى أو أى فرد آخر من عصابته، ناهيك عن احتمال ظهور مرشحين آخرين تحت عباءات سياسية أخري، المهم أن الجماعة تجد فى الانتخابات معركة سياسية تستحق التضحية، لأنها تتصور أن كعكة ليبيا يمكن التهامها تماما، وسط الانقسامات الحادة التى تمر بها البلاد.
إخوان ليبيا يحاولون الاستفادة من دروس أقرانهم فى بلدان أخري، ويريدون القفز على خيبتهم المستمرة فى مصر، ويسعون لتطوير نموذجهم فى تونس، ولن يقبلوا بمشاركة محدودة فى الجزائر أو الأردن، كما لن يرضخوا لمعادلة منضبطة لأشقائهم فى المغرب، فالقيادات تعمل الآن على ترتيب الأوراق للقبض على الثروة والسلطة فى ليبيا، وتتمنى أن يتواصل الاقتتال وتتسع الأزمة وتنضج بصورة تسمح بتنحية القوى الرافضة.
دروس التجارب المختلفة دفعت الإخوان نحو العض بالنواجذ على كل بارقة أمل تقربهم من السلطة فى ليبيا، وعمدوا إلى اتباع حزمة من التكتيكات قد ترهق من يلاحقونهم، فهم على توافق مع غالبية الكتائب المسلحة، وعلى وئام مع شريحة من أنصار النظام العقيد الليبى السابق معمر القذافى، ومتحالفون مع إرهابيين فى أماكن عدة، ولهم روافد فى تركيا وقطر يمدونهم بالسلاح، وجذورهم فى الحكومة تضرب عرض الحائط بأى تفاهمات للتسوية.
اللعبة التى بدأت معالمها تتضح فى ليبيا تقوم على التوسع الأفقى، بمعنى التمدد فى نسيج قوى كثيرة فى مناطق متباينة، والتغول فى السيطرة على مفاتيح الاقتصاد، والتوصل لتفاهمات مغرية من عناصر تبدى استعدادا للقبول بالجماعة فى السلطة، والأخطر أن هناك جهات خارجية تراودها خيالات تنصيب الإخوان كستار فى ليبيا، لأن القوى الوطنية لديها مواقف رافضة من التدخلات المباشرة للقوى الاستعمارية السابقة فى المنطقة، وهو ما تراه وسيلة لتعزيز أهميتها لدى بعض الدول الغربية.
التمزق الظاهر فى ليبيا أحد تجليات الأزمة فعلا، ما يمثل حالة مثالية لاختراق الإخوان، فالمخططات والترتيبات تستند بقوة إلى تعميق الفوضى وزيادة نطاق الانفلات ونشر العصابات المسلحة والحرب الأهلية وتوفير رعاية لها، باعتبارها من المقومات الرئيسية لتسلل الجماعات المتشددة والأهداف المنحرفة، لأن أى دولة تملك مؤسسات عسكرية وشرطية وإدارية منضبطة سوف تكون عصية على جماعة الإخوان، التى منحت وقتا طويلا لهدم الأجسام الصلبة فى الدولة.
من هنا كان خيار الجماعة منسجما مع طروحات روجتها دوائر غربية تقوم على إمعان التخريب فى القوام الحيوى والعام للدولة وتفتيت أركانها وهياكلها، بزعم البناء بالطريقة التى تناسب الجماعة، وهى طريقة خالية من القيم الوطنية، ووصفة مدمرة تقضى على أى أمل فى الحفاظ على وحدة واستقلال البلاد.
ما نراه فى ليبيا الآن يقترب من هذه الحالة، فمن دعموا وأيدوا وغذوا الجماعة وصلوا إلى ما يشبه اليقين أن ثمرة ليبيا أينعت وحان وقت قطافها، ربِما تكون بعض المؤشرات الظاهرة تصب فى هذا الاتجاه وتغرى من تخيلوا أنهم تمكنوا من فرض إرادتهم، غير أنهم يتجاهلون أن مخططاتهم مفضوحة، والتقية الإخوانية لم تعد خافية على كثيرين، وغرور القوة، أو استثمار الضعف أحيانا لن يكفى لتمرير أغراضهم فى ليبيا، فهناك صمامات حية يمكنها التصدى لهؤلاء.
لا تزال القبيلة أحد عناصر القوة، وكل محاولات العبث بها وإشاعة الانقسامات فى صفوفها لم تفلح فى هز البنى الأساسية لها، وغالبية قيادات وشيوخ وعوائل ليبيا التاريخية تعرف الفواصل السياسية والأمنية بين القوى الوطنية والتخريبية، وما يجب عمله وما لا يجب الاقتراب منه.محاولات المتاجرة ببعض الأسماء وتصديرها على أنها تمثل كيانات قبلية لن تنطلى على من يعرفون طبيعة الأعراف والتقاليد السائدة فى ليبيا، وتلوح فى الأفق علامات إيجابية قد تجرف فى طريقها الإخوان وأصحاب الأجندات الخارجية، ومهما تضخمت المراوغات والتحالفات ستظل هشة فى مواجهة شرائح حية فى ليبيا، تعتقد أنها قادرة على التوحد والتفاهم والحفاظ على مقدرات وثروات بلدهم، والتى تحاول الجماعة وضعها رهينة فى جيوب آخرين.
ما تقوم به قيادات الجماعة من اجتماعات ولقاءات فى اسطنبول والدوحة وغيرهما، لم يعد سرا، وما يتم تسريبه من معلومات لإرباك الآخرين لن يمكنهم من تنفيذ مخططاتهم، فإذا كانت الجماعة ومن يساندونها أخفقوا فى إقناع الشارع الليبى الفترة الماضية بالالتفاف حولهم، فإن الفترة المقبلة سوف تكون أشد صعوبة، والتى يمكن أن تشهد فيها الأزمة تطورات فاصلة، وبالتالى سيتم وضع مناورات الإخوان تحت المجهر والتصدى لها بحسم.
نقلًا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع