الجدل المحتدم حاليا بين الفصائل الفلسطينية المختلفة حول أيهما يجب إنجازه أولا، التهدئة أم المصالحة، يؤثر على إنجاز الخطوتين، ففتح التى ترى فى تمكين السلطة الوطنية من قطاع غزة أولوية لن تستطيع الوصول إلى هذا الهدف فى ظل استمرار الإجراءات التصعيدية بين إسرائيل وحماس، لأنها تمنح الأخيرة مبررات يمكنها أن تعطل بها التمكين.
المسألة أصبحت لا علاقة لها بالأولويات والتقديرات السياسية، العلاقة تقتصر على طبيعة الحسابات الضيقة التى تريد بعض الأطراف تنفيذها على الأرض، رغبة فى التكويش على السلطة أو حرصا على منع آخرين من التضخم المعنوي، وهو ما جعل القضية الفلسطينية تعانى أزمات كثيرة، كلما لاحت فى الأفق بارقة أمل، ظهرت علامات تعيدها إلى المربع صفر.
المعركة الحالية تبدو فى بعض جوانبها مفتعلة، وبعيدة تماما عن الأهداف التى تخدم القضية الأم، وتدخل باختصار فى باب تصفية قديمة للحسابات، والصراع على قيادة الدفة الفلسطينية، بصرف النظر عما يمكن أن يؤدى إليه ذلك من مشكلات تسهم فى وضع المزيد من العراقيل لاستكمال مسيرة النضال فى مواجهة إسرائيل.
الطريقة التى تدير بها مصر اللقاءات والاجتماعات والحوارات مع الفصائل الفلسطينية، راعت منذ البداية هذه المشكلات، وسعت إلى إزالة عثرات كثيرة فى مجال التهدئة ورفع الحصار وإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة، ثم العمل على توفير الأجواء المناسبة للشروع فى تسوية سياسية تضمن الحد المقبول لنصرة القضية الفلسطينية.
سياسة الخطوط المتوازية هى الوسيلة الرئيسية التى اتبعتها القيادة المصرية فى التعامل مع الملف الفلسطيني، بكل تعقيداته السياسية والأمنية والاقتصادية، وحققت نجاحات كبيرة على هذه المستويات، كادت تنهى جملة كبيرة من الخلافات، لكن تصميم البعض على الدخول فى تفاصيل دقيقة ومثيرة لتعطيل الحل تسبب فى المزيد من المشكلات المزمنة. تقدم ملف على آخر كان ينبع من طبيعة المرحلة، فقد تقدم ملف التهدئة نسبيا لأنه أحد المحاور الأساسية التى تنطلق منها باقى الخطوات، وكان لزاما تحقيق اختراق واضح فيه ليكون مقدمة سليمة لعزل المنغصات التى يحلو للبعض تفجيرها عندما يحين الوقت لتجاوز مطبات عميقة.
التفاهمات المصرية والأممية، من خلال نيكولاى ميلادينوف مبعوث الأمم المتحدة للسلام فى الشرق الأوسط، وعزل قطر عن ممارسة ألاعيبها، أسهمت بدور كبير فى الأولوية التى مُنحت لملف التهدئة، لأنها مرتبطة بشكل كبير بفك الحصار الإسرائيلى على قطاع غزة، وهى فرصة لتحقيق تقدم كبير على هذا المستوى فى الوقت الراهن، بعد فترة طويلة من الإهمال والمماطلات من جانب المجتمع الدولي، ترك إسرائيل تمارس عنفها وإجرامها للتضييق على المواطنين فى غزة.
الواضح أن مصر كانت حريصة فى خطواتها على مستوى الملفات المختلفة، على حضور السلطة الفلسطينية، أو من ينوب عن قيادتها الشرعية، وبذلت جهودا كبيرة فى هذا السياق، لكن البعض كان يتعمد إثارة الغبار والتحريض، وتوجيه اتهامات لا تستند لطبيعة خبرة مصر مع القضية الفلسطينية أو تاريخها الطويل والمشرف فى نصرتها وقت الحرب والسلم، وهى الرؤى التى أثبتت الأوضاع المتدهورة حاليا صحتها.
المثير أن التهدئة التى يتم الحشد لها وتشجيعها من قبل جهات إقليمية ودولية، تبدو مرفوضة من الطرفين الرئيسيين، أى إسرائيل وحماس، وتشبه «السم» الذى ابتلعه الخومينى فى إيران عندما قبل بوقف إطلاق النار مع الرئيس العراقى صدام حسين.
معظم المعلومات والتصريحات القادمة من المسئولين فى إسرائيل أو قيادات حماس، تؤكد أن الهدنة مؤقتة، ويمكن أن تنهار فى أى لحظة، لذلك يعمل الوسيط المصرى والأممى على تثبيتها لأطول فترة ممكنة، لتستطيع القاهرة استكمال المهمة على أصعدة أخري.
الحاصل أن الهدنة تحولت إلى فضاء للمزايدة ليس فقط لدى حركة فتح، لكن أيضا لدى كثير من الإسرائيليين، فمنهم من يرى فيها مكافأة للمقاومة الفلسطينية، ومنهم من يعتقد أنها محاولة من جانب بنيامين نيتانياهو رئيس الوزراء للهروب إلى الأمام لترتيب أوضاعه السياسية القلقة، لذلك اتخذت بعض الأحزاب منها وسيلة ضغط على نيتانياهو لحرمانه من ثمارها الأمنية، وهو نفسه لم يضبط صراحة أنه مع الهدنة دون وضع شروط تعجيزية، إذا تم التفكير فيها بعمق ستنسف التسوية مستقبلا.
حماس أيضا دخلت مجال الرفض العلنى لها، ووضعت شروطا، لكنها فى النهاية بدت منحازة لتهدئة قد تمكنها من تحقيق مكاسب سياسية على الساحة الفلسطينية وتعويض الخسائر التى تكبدتها بسبب الحصار الإسرائيلى على غزة.
المضى قدما نحو التهدئة سوف يستمر حتى لو جرى تطبيقها ضمنيا، فى ظل التعقيدات التى ظهرت من قبل أطراف مختلفة، مما يمنح الملفات الفلسطينية الأخرى فرصة كبيرة لمناقشتها والتغلب على عقباتها المتراكمة، وتجاوز عملية الاستقطاب التى زادت خلال الأيام الماضية، وجعلت بعض الفصائل تنتقل من معسكر إلى آخر، وهو طريق تمت تجربته سابقا وأكد أن من يمارسون هذه اللعبة يتجاهلون التغيرات والتطورات المتسارعة.
عندما أجاد الرئيس الراحل ياسر عرفات هذه اللعبة، كانت الأوضاع الفلسطينية والإقليمية والدولية مساعدة له، لكن الآن الأمور لن تميل لمن يحاولون تكرار نموذج الزعيم أبوعمار، من خلال الإغراء والترهيب، فالكاريزما مختلفة، والرجال باتت أهواؤهم أكثر ألما، لأن رؤاهم تتغلب فيها التقديرات الشخصية على نظيرتها الوطنية.
الفترة المقبلة فاصلة فى عمر العلاقة بين القوى الفلسطينية، ويمكن أن تسفر عن توافقات مهمة تفرمل نزيف الخلافات، لأن المناقشات التى دارت خلال الأسابيع الماضية كشفت بعض الحقائق التى يؤدى تجاهلها لمزيد من التحديات، التى تدخل القضية الفلسطينية نفقا أشد بغضا وعمقا.
التلميحات الإيجابية وفرملة التوجهات السلبية التى ظهرت أخيرا، من المهم الاستفادة منها والتركيز على مكوناتها الداعمة للتلاحم الوطني، والابتعاد عن التراشقات التى أدمت قلوب كثيرين كانوا يعتقدون أن الأزمة وروافدها القاتمة كفيلة بصد التصورات والممارسات المرتبكة.
لا تزال هناك فرصة تقدمها مصر لجميع الأشقاء الفلسطينيين، تقوم على الدخول فى حوارات جماعية، بمعنى أن تكون أولوية كل ملف بقدر علاقته وتأثيره على الملفات الأخري، لأن كلها مربوطة فى سلسلة واحدة، عنوانها التفاهم والتراضى وتقديم التنازلات كى تسير السفينة الفلسطينية ولا تتوقف عند أى من المحكات التى تتمنى إسرائيل سقوط الجميع فيها.
نقلًا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع