كل من يتابع التطورات الحالية فى ليبيا يتأكد أنها حبلى بكثير من المفاجآت العسكرية والسياسية. فمنذ ظهور اللواء السابع- مشاة على المسرح الأمنى فى طرابلس والأمور تغيرت، من حيث التوازنات التى أنشأتها الميليشيات المسلحة بمعرفة بعض اللاعبين الليبيين والدوليين.
عندما كتبت الأسبوع الماضى فى هذا المكان مقال: حان وقت التخلص من الميليشيات الليبية، هاتفنى مشكورا معالى الأمين العام للجامعة العربية السفير أحمد أبوالغيط، وسألنى عن الصيغة المثلى للوصول إلى المضمون الذى حمله عنوان المقال، تحدثنا وتبادلنا أطراف النقاش لبعض الوقت، مما يؤكد انشغاله الدائم بالهم الليبي.
الحاصل أن وقف إطلاق النار الذى جرى الأسبوع الماضي، بمعرفة غسان سلامة مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، لن يصمد طويلا وقابل للاختراق فى أى لحظة، لأن الترتيبات الأمنية التى اعتمد عليها تدور فى الفلك ذاته الذى دشنه الرجل منذ تولى مهمته.
سلامة يتعامل مع الأمر الواقع ولا يحاول التفكير فى تغييره وحل ألغازه، مما جعله يمنح، عن قصد أو دونه، مزايا عديدة لميليشيات مسلحة أرهقت الدولة الليبية، وهى فى النهاية جماعات خارجة على الشرعية يجب محاربتها بكل السبل، لأن أى ليونة ظاهرة معها تضعف من سمعة ومصداقية الأمم المتحدة فى ليبيا وغيرها.
الصمت على تجاوزات الميليشيات والحوار معها والموافقة على أن تكون جزءا أساسيا من مكونات الحكم خطيئة كبيرة، قد يدفع ثمنها سلامة نفسه، فقد منحها الرجل غطاء شرعيا أسهم فى تغولها بصورة أصبحت عملية السيطرة عليها تتطلب خطوات معقدة، ربما تحرج بعض القوى الدولية وتضعها فى تناقضات فادحة. لم يلتقط سلامة الإشارات الإيجابية التى تؤكد أن وجود عناصر عسكرية وطنية يحتاج لتوسيع دورها وليس تضييق الخناق عليها أو مساواتها بعناصر مسلحة مهمتها استمرار التقتيل والتخريب والتفجير لضمان البقاء بأى وسيلة على قيد الحياة السياسية.
الميزة التى يجب أن تدركها الأمم المتحدة أن المؤسسة العسكرية المحترفة، لديها خبرات عملياتية متراكمة، ويملك قادتها توجهات تعلى من شأن الإجراءات الأمنية النظامية، وتدرك حجم التحديات التى تمر بها الدولة الليبية، وتؤمن بأهمية عودة الهيئات الشرعية لممارسة دورها بعيدا عن قبضة الميليشيات.
لا يزال المبعوث الأممى يعمل ألف حساب للعناصر المسلحة، مع أنه من المفروض أن ينتهز فرصة ظهور عناصر وطنية تتطوع لسد الفراغ وتحمل مسئولية الترتيبات الأمنية. يصر سلامة ورئيس حكومة الوفاق فايز السراج ومن اقتنعوا بتصوراتهما على إعلاء دور الميليشيات، ووضع العربة أمام الحصان، مما يعرقل التصرفات الرامية لإيجاد حل للأزمة.
الواقع يؤكد أن هناك فرصة مواتية للمساعدة فى الوصول إلى ترتيبات جديدة تشارك فيها عناصر عسكرية وطنية، وأى اتفاق لوقف النار مكتوب عليه الفشل إذا تغافل دور المشير خليفة حفتر قائد الجيش الليبى فى الشرق، وتجاهل المكونات الرئيسية فى المجتمع الليبي، لأنها الوحيدة القادرة على دحر الميليشيات وتقليص مظاهر التسلح فى الشارع الليبي.
الواضح أن العاصمة مرت بأربع مراحل رئيسية أدت نتيجتها إلى تحكم الميليشيات فى مفاصلها، وتصاعد حدة الأزمة التى تبحث قوى محلية وإقليمية عن صيغة سياسية لحلها، تتضمن ضرورة إخراج التنظيمات المسلحة من المعادلة الأمنية لضمان قدر من الهدوء يؤدى إلى الأمن والاستقرار.
الأولي، بدأت فى 20 أغسطس 2011 عندما دخل تحالف ما يسمى بثوار فبراير طرابلس، وأعلنوا رسميا سقوط نظام العقيد معمر القذافي. ولم تستمر هذه الفترة سوى أشهر قليلة، وجار فيها تيار على آخر. بعدها بدأت المرحلة الثانية مع دخول عناصر مسلحة من الزنتان ومصراتة (شرق طرابلس) العاصمة وطى الصفحة السابقة.
المرحلة الثالثة، جاءت عام 2014 مع ظهور قوات فجر ليبيا، والجماعة الليبية المقاتلة المحسوبة على الإخوان، وتنظيم القاعدة وخليط من السلفيين، كقوى رئيسية فى طرابلس، ثم تغير الوضع بعد نحو عامين (المرحلة الرابعة) مع مجيء السراج وحكومته بموجب اتفاق الصخيرات، فقامت ميليشيات عديدة بالسيطرة على العاصمة واختطاف مؤسساتها الرسمية، وتقسيم مناطق النفوذ إلى مربعات، كل جماعة مسلحة تتحكم فى منطقة، وفقا لتفاهمات رسمية، أضفت عليها قوة مادية ومعنوية مضاعفة.
المرحلة الخامسة بدأت مع التطورات الأخيرة، بدءا من 26 أغسطس الماضي، وظهر فيها اللواء السابع كقوة عسكرية منضبطة قادرة على قهر الميليشيات، إذا توافرت لها عناصر الدعم اللازمة من الأطراف الفاعلة فى الأزمة، لأن هناك فرصة لتكون المعركة الراهنة فاصلة فى القضاء على سيطرة الجماعات المسلحة فى الغرب الليبي، وليس فى العاصمة فقط.
المعادلة الجديدة المنتظرة، عليها أن تراعى المخاطر التى ينطوى عليها تمركز الكثير من العناصر المسلحة فى الغرب، عقب دحر غالبيتها فى الشرق، الأمر الذى يتطلب إعادة تصحيح بعض المسارات التى غضت الطرف عن انتهاكات الميليشيات، ومكنتها من اختيار دبلوماسيين تابعين لقادتها فى بعض الدول العربية والإفريقية.
النجاح الذى حققه اللواء السابع مثلا فى إعادة دمج العناصر الوطنية التابعة للنظام القديم فى معادلة طرابلس، يضفى المزيد من التوازن على العاصمة، ويفتح الطريق لتوسيع نطاق الاندماجات على أسس وطنية، وفى مقدمتها توحيد المؤسستين العسكرية والشرطية، باعتبارهما من أهم الجهات القادرة على ضبط الأمن بمنهجية وطنية.
وهى الرؤية التى تكافح مصر من أجل تطبيقها منذ سنوات، وتحتاج دعما سياسيا لإنجازها لأنها سوف تصبح النواة التى تفضى إلى تثبيت الهدوء فى أركان ليبيا.
المعطيات السابقة تفرض على الدول الغربية المشغولة بالحفاظ على مصالحها فقط التفكير فى خطط بديلة، والتعامل مع المستجدات بقدر عال من الواقعية، والتكيف مع التطورات التى تمر بها طرابلس حاليا، لأن حل الأزمة الليبية لن يتم بناء على وصفات معلبة وسابقة التجهيز، لكنه يحتاج إلى الاعتماد على أفكار خلاقة تبتعد عن تكرار المشاهد التى جعلت من ارتفاع سحب الدخان فى العاصمة وغيرها طقسا يوميا اعتاد عليه الليبيون.
التطورات المقبلة مفتوحة على احتمالات متباينة، أهمها إضعاف الميليشيات ودخولها مرحلة الكمون تمهيدا للاختفاء النهائي، وأسوأها أن ينجح قادتها فى الضغط على بعض القوى الدولية، وابتزازهم بداعى الحفاظ على مصالحهم فى ليبيا، وتفشل أى خطة للترتيبات الأمنية الجديدة فى طرابلس.
نقلًا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع