توقيت القاهرة المحلي 10:57:21 آخر تحديث
  مصر اليوم -

المعركة على شكل السودان الجديد

  مصر اليوم -

المعركة على شكل السودان الجديد

بقلم - محمـد أبــوالفضـــل

تبخرت رغبة العقيد الراحل جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، سريعا لتكوين سودان جديد يقوم على الحرية والعدالة والمواطنة، ولا فرق فيه بين شمال وجنوب، أو شرق وغرب، واتجه إلى خيار الانفصال رضائيا بعد سنوات من حمل البندقية قسريا. والنتيجة لم ينعم الجنوب بالأمن، ولم يحل الاستقرار فى الشمال، ولم تتوقف فصول الحروب الغامضة.

بالطبع لا يعيد التاريخ نفسه، لكن الكثير من القوى تحاول الاستفادة من عبره وتجنب تكرار أخطائه لتحقيق أحلامها. والمشكلة أن كل طرف ينظر إلى الدروس من زاويته فقط، ويعتقد أنه على صواب دائما، وينكر ذلك على من يختلفون معه، وقد يرفع شعارات جذابة بلا مضمون، فالمهم الوصول إلى قلوب الناس من دون عقولهم. هذه واحدة من القضايا التى أدت إلى تباعد المسافات بين المجلس العسكرى الانتقالى وتحالف إعلان الحرية والتغيير أخيرا. فكل جانب يرى أنه قادر وحده على امتلاك صك السودان الجديد. وزادت الهواجس بما جعل الطرح الذى يقدمه طرف محل شك من الطرف الثاني.

وأخفقت محاولات التوافق حول قواسم مشتركة تعيد بناء الدولة على أسس سليمة. وأدى احتدام التجاذبات إلى تلويح باللجوء إلى خيارات صعبة. صورت المشهد العام كأنه معادلة صفرية. كل مكسب للمجلس العسكرى يمثل خسارة للحرية والتغيير. والعكس صحيح. وأصبح الأفق الذى تمضى فيه الأمور قاتما، وربما يفضى إلى عدم التفاهم على مصير السودان الجديد، ويصب فى مصلحة جهات ترغب فى تعميم مكونات القلق والارتباك.

يعـى المجلس العسكرى ملابسات المسألة جيدا، ويدرك طبيعة التهديدات التى تحيط بأمن واستقرار وسمعة دولة فقدت قدرا كبيرا من مصداقيتها فى عهد الرئيس المعزول عمر البشير، بسبب انتهازية القيادة السياسية وادمانها المشى على حبال مترهلة، والانحياز لجبهات متشددة وضعتها فى خانة قوى شاردة ومزعجة لجيرانها. ويزداد تمسك المجلس بدوره المحورى فى الصيغة الوطنية التى سيتم الالتفاف حولها انطلاقا من يقينه بتعاظم التحديات الإقليمية. يتشكك تحالف الحرية والتغيير فى هذا التقدير، ويرى فيه مبالغة متعمدة، ويحوى أهدافا خفية، وتعمل قيادته على توظيف ورقة المعتصمين فى الشارع، وتضخيم أطرها وتفاعلاتها السياسية، وتهميش دور المؤسسة العسكرية بحجة السعى لدولة مدنية خالصة. وتسويق الأمر على أن طبيعة الجيوش تقف فى صف مناهض للقوى الديمقراطية.

لست فى مجال اختبار الفرضية أو تحميلها إسقاطات سياسية على نماذج بعينها فى المنطقة. لكن خبرة السودان العريقة لن تخدم من يريدون الاستئثار بالسلطة، سواء كانوا من العسكريين أو المدنيين. فإحدى مشكلاته وقوعه فى فخ الفريقين، ولم تفلح تجارب أى منهما سابقا فى الحكم منفردا فى تبديد الشكوك. وتفرض التعقيدات الراهنة التوصل إلى تحالف شفاف بين الطبقتين (العسكرية والمدنية) يقوم على وضع عقد اجتماعى يؤدى إلى تحقيق حلم السودان الجديد. فمهما اجتهد الجيش فى الحديث عن التحديات وكشف ملامح المتربصين بالدولة فى الداخل والخارج لن تتزحزح قناعة الرافضين. ومهما حاولت المعارضة بأطيافها المختلفة تهميش دور المجلس العسكرى فى الحياة المدنية لن تفلح، لأن عددا كبيرا من قياداته لديهم خبرة سياسية غير خافية.

تبدو المعركة فى الظاهر صراعا على شكل الحكم فى السودان، بين من يرون أنهم أهل حنكة وكفاءة أمنية لحمايته من المخاطر وإبعاده عن التوترات، وبين من يعتقدون أنهم أولى سياسيا بالقبض على زمام الأمور. بينما هى فى الباطن خلاف محتدم بين نموذجين متناقضين فى المنطقة. كلاهما يريد تأكيد صواب منهجه.

الأول يميل إلى تثبيت دور الجيوش كحارس أمين على الحكم فى عديد من الدول العربية، بعد سلسلة انهيارات عصفت بكل من العراق وسوريا واليمن وليبيا، سمحت بتسلل تنظيمات متطرفة، وشيوع أنماط متباينة من الإرهاب لم تعرفه المنطقة من قبل. وكلها تحتاج إلى قبضة حديدية للتعامل معها، بالتالى لن تستطيع فكرة الحكم المدنى مجابهة المستجدات التى لا تزال ترى فى تيار الإسلام السياسى رأس حربة للتخريب والتدمير وليس أداة للحكم الرشيد. فما بالنا بالسودان الذى كان فى مقدمة الدول التى فتحت الباب مبكرا لعناصر هذا التيار الذى لا يزال يحتفظ بقوة قاعدية وتنظيمية وسياسية كبيرة، ويتربص حاليا للنيل ممن أسقطوا البشير، ويعمل جاهدا للعودة إلى السلطة؟.

أما النموذج الثاني، فهو الذى يحلم بتنحية الطبقة العسكرية عن السلطة والتأسيس لدولة مدنية ديمقراطية، وتنتابه مخاوف جمة من اقتراب قياداتها من الحكم، لأنها تصل فى النهاية إلى تكريس قبضتها الأمنية، ووضع جميع المفاتيح السياسية فى يدها، ولا تقبل شراكة من خارجها، وهو ما جعل «الفوبيا» تنتشر فى صفوف غالبية القوى العربية الراغبة فى صيغة واعدة للدولة المدنية. تتجاوز المسألة حدود السودان، وتكاد تعتمل المعركة بين النموذجين، صراحة أو ضمنيا، فى كثير من الدول العربية. ولعل بعض التطورات الحالية تؤكد لأى درجة تعاظم الانسداد بين عناصر الطرفين. ففى الجزائر هناك رفض قاطع لاستمرار السيطرة التاريخية للمؤسسة العسكرية. وفى ليبيا، التى أنهكتها العصابات المسلحة وضعفت فيها الحكومات، يكتسب الجيش الوطنى بقيادة المشير خليفة حفتر أرضا تمنحه مشروعية كبيرة. تكمن مشكلة السودان فى تجاربه. فعلى مدى ستة عقود من التذبذب، اتسع نطاق الخلاف حول النموذجين، حيث تمتلك عناصر كل فريق عوامل كبيرة للقوة الشاملة، تشير إلى صعوبة فوز أحدهما بالضربة القاضية، وتحتم أن يكون التلاقى حول مستقبل السودان عن طريق الشعب للخروج من الأزمة، لأن تمرير رؤية المجلس العسكرى كاملة لن يضمن بقاء قياداته فترة طويلة فى السلطة، فقد مضى وقت الاستحواذ عليها بلا منغصات سياسية.

كما أن ترجيح كفة تحالف الحرية والتغيير لن يفضى إلى سلطة صامدة فى مواجهة عواصف عاتية وأزمات متراكمة، وعلى قواه الحية الخروج من أسر الحسابات المسكونة بهواجس إقليمية، لأن السودان له خصوصية عسكرية ومدنية مختلفة عن معظم الدول العربية، وهى التى ستتحكم فى البوصلة التى يستقر عليها شكل الحكم الجديد.

نقلًا عن الأهرام القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع    

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المعركة على شكل السودان الجديد المعركة على شكل السودان الجديد



GMT 08:51 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

أين نحن من المفاوضات الدولية مع إيران؟

GMT 08:50 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

المعرفة التي قتلت لقمان سليم

GMT 08:46 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

لقمان سليم وتوحش النظام الإيراني

GMT 08:44 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

4 مليارات ثمن 12 بيضة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:05 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي
  مصر اليوم - شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon