توقيت القاهرة المحلي 10:49:55 آخر تحديث
  مصر اليوم -

المعركة على شكل السودان الجديد

  مصر اليوم -

المعركة على شكل السودان الجديد

بقلم - محمـد أبــوالفضـــل

تبخرت رغبة العقيد الراحل جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، سريعا لتكوين سودان جديد يقوم على الحرية والعدالة والمواطنة، ولا فرق فيه بين شمال وجنوب، أو شرق وغرب، واتجه إلى خيار الانفصال رضائيا بعد سنوات من حمل البندقية قسريا. والنتيجة لم ينعم الجنوب بالأمن، ولم يحل الاستقرار فى الشمال، ولم تتوقف فصول الحروب الغامضة.

بالطبع لا يعيد التاريخ نفسه، لكن الكثير من القوى تحاول الاستفادة من عبره وتجنب تكرار أخطائه لتحقيق أحلامها. والمشكلة أن كل طرف ينظر إلى الدروس من زاويته فقط، ويعتقد أنه على صواب دائما، وينكر ذلك على من يختلفون معه، وقد يرفع شعارات جذابة بلا مضمون، فالمهم الوصول إلى قلوب الناس من دون عقولهم. هذه واحدة من القضايا التى أدت إلى تباعد المسافات بين المجلس العسكرى الانتقالى وتحالف إعلان الحرية والتغيير أخيرا. فكل جانب يرى أنه قادر وحده على امتلاك صك السودان الجديد. وزادت الهواجس بما جعل الطرح الذى يقدمه طرف محل شك من الطرف الثاني.

وأخفقت محاولات التوافق حول قواسم مشتركة تعيد بناء الدولة على أسس سليمة. وأدى احتدام التجاذبات إلى تلويح باللجوء إلى خيارات صعبة. صورت المشهد العام كأنه معادلة صفرية. كل مكسب للمجلس العسكرى يمثل خسارة للحرية والتغيير. والعكس صحيح. وأصبح الأفق الذى تمضى فيه الأمور قاتما، وربما يفضى إلى عدم التفاهم على مصير السودان الجديد، ويصب فى مصلحة جهات ترغب فى تعميم مكونات القلق والارتباك.

يعـى المجلس العسكرى ملابسات المسألة جيدا، ويدرك طبيعة التهديدات التى تحيط بأمن واستقرار وسمعة دولة فقدت قدرا كبيرا من مصداقيتها فى عهد الرئيس المعزول عمر البشير، بسبب انتهازية القيادة السياسية وادمانها المشى على حبال مترهلة، والانحياز لجبهات متشددة وضعتها فى خانة قوى شاردة ومزعجة لجيرانها. ويزداد تمسك المجلس بدوره المحورى فى الصيغة الوطنية التى سيتم الالتفاف حولها انطلاقا من يقينه بتعاظم التحديات الإقليمية. يتشكك تحالف الحرية والتغيير فى هذا التقدير، ويرى فيه مبالغة متعمدة، ويحوى أهدافا خفية، وتعمل قيادته على توظيف ورقة المعتصمين فى الشارع، وتضخيم أطرها وتفاعلاتها السياسية، وتهميش دور المؤسسة العسكرية بحجة السعى لدولة مدنية خالصة. وتسويق الأمر على أن طبيعة الجيوش تقف فى صف مناهض للقوى الديمقراطية.

لست فى مجال اختبار الفرضية أو تحميلها إسقاطات سياسية على نماذج بعينها فى المنطقة. لكن خبرة السودان العريقة لن تخدم من يريدون الاستئثار بالسلطة، سواء كانوا من العسكريين أو المدنيين. فإحدى مشكلاته وقوعه فى فخ الفريقين، ولم تفلح تجارب أى منهما سابقا فى الحكم منفردا فى تبديد الشكوك. وتفرض التعقيدات الراهنة التوصل إلى تحالف شفاف بين الطبقتين (العسكرية والمدنية) يقوم على وضع عقد اجتماعى يؤدى إلى تحقيق حلم السودان الجديد. فمهما اجتهد الجيش فى الحديث عن التحديات وكشف ملامح المتربصين بالدولة فى الداخل والخارج لن تتزحزح قناعة الرافضين. ومهما حاولت المعارضة بأطيافها المختلفة تهميش دور المجلس العسكرى فى الحياة المدنية لن تفلح، لأن عددا كبيرا من قياداته لديهم خبرة سياسية غير خافية.

تبدو المعركة فى الظاهر صراعا على شكل الحكم فى السودان، بين من يرون أنهم أهل حنكة وكفاءة أمنية لحمايته من المخاطر وإبعاده عن التوترات، وبين من يعتقدون أنهم أولى سياسيا بالقبض على زمام الأمور. بينما هى فى الباطن خلاف محتدم بين نموذجين متناقضين فى المنطقة. كلاهما يريد تأكيد صواب منهجه.

الأول يميل إلى تثبيت دور الجيوش كحارس أمين على الحكم فى عديد من الدول العربية، بعد سلسلة انهيارات عصفت بكل من العراق وسوريا واليمن وليبيا، سمحت بتسلل تنظيمات متطرفة، وشيوع أنماط متباينة من الإرهاب لم تعرفه المنطقة من قبل. وكلها تحتاج إلى قبضة حديدية للتعامل معها، بالتالى لن تستطيع فكرة الحكم المدنى مجابهة المستجدات التى لا تزال ترى فى تيار الإسلام السياسى رأس حربة للتخريب والتدمير وليس أداة للحكم الرشيد. فما بالنا بالسودان الذى كان فى مقدمة الدول التى فتحت الباب مبكرا لعناصر هذا التيار الذى لا يزال يحتفظ بقوة قاعدية وتنظيمية وسياسية كبيرة، ويتربص حاليا للنيل ممن أسقطوا البشير، ويعمل جاهدا للعودة إلى السلطة؟.

أما النموذج الثاني، فهو الذى يحلم بتنحية الطبقة العسكرية عن السلطة والتأسيس لدولة مدنية ديمقراطية، وتنتابه مخاوف جمة من اقتراب قياداتها من الحكم، لأنها تصل فى النهاية إلى تكريس قبضتها الأمنية، ووضع جميع المفاتيح السياسية فى يدها، ولا تقبل شراكة من خارجها، وهو ما جعل «الفوبيا» تنتشر فى صفوف غالبية القوى العربية الراغبة فى صيغة واعدة للدولة المدنية. تتجاوز المسألة حدود السودان، وتكاد تعتمل المعركة بين النموذجين، صراحة أو ضمنيا، فى كثير من الدول العربية. ولعل بعض التطورات الحالية تؤكد لأى درجة تعاظم الانسداد بين عناصر الطرفين. ففى الجزائر هناك رفض قاطع لاستمرار السيطرة التاريخية للمؤسسة العسكرية. وفى ليبيا، التى أنهكتها العصابات المسلحة وضعفت فيها الحكومات، يكتسب الجيش الوطنى بقيادة المشير خليفة حفتر أرضا تمنحه مشروعية كبيرة. تكمن مشكلة السودان فى تجاربه. فعلى مدى ستة عقود من التذبذب، اتسع نطاق الخلاف حول النموذجين، حيث تمتلك عناصر كل فريق عوامل كبيرة للقوة الشاملة، تشير إلى صعوبة فوز أحدهما بالضربة القاضية، وتحتم أن يكون التلاقى حول مستقبل السودان عن طريق الشعب للخروج من الأزمة، لأن تمرير رؤية المجلس العسكرى كاملة لن يضمن بقاء قياداته فترة طويلة فى السلطة، فقد مضى وقت الاستحواذ عليها بلا منغصات سياسية.

كما أن ترجيح كفة تحالف الحرية والتغيير لن يفضى إلى سلطة صامدة فى مواجهة عواصف عاتية وأزمات متراكمة، وعلى قواه الحية الخروج من أسر الحسابات المسكونة بهواجس إقليمية، لأن السودان له خصوصية عسكرية ومدنية مختلفة عن معظم الدول العربية، وهى التى ستتحكم فى البوصلة التى يستقر عليها شكل الحكم الجديد.

نقلًا عن الأهرام القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع    

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المعركة على شكل السودان الجديد المعركة على شكل السودان الجديد



GMT 08:51 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

أين نحن من المفاوضات الدولية مع إيران؟

GMT 08:50 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

المعرفة التي قتلت لقمان سليم

GMT 08:46 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

لقمان سليم وتوحش النظام الإيراني

GMT 08:44 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

4 مليارات ثمن 12 بيضة

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 11:46 2024 السبت ,14 كانون الأول / ديسمبر

مبابي أفضل لاعب فرنسي في موسم 2023-2024 ويعادل كريم بنزيما

GMT 08:32 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

ايجابيات وسلبيات استخدام ورق الجدران في الحمامات

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 09:32 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

إطلالات للمحجبات تناسب السفر

GMT 10:42 2018 الخميس ,19 إبريل / نيسان

بولندا خرقت القانون بقطع أشجار غابة بيالوفيزا

GMT 23:19 2018 السبت ,07 إبريل / نيسان

كلوب يحمل بشرى سارة بشأن محمد صلاح

GMT 01:19 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

لاتسيو يحتفظ بخدمات لويس ألبيرتو حتى 2022

GMT 07:17 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

وفاء عامر تبدي سعادتها لقرب عرض مسلسل الدولي

GMT 09:03 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

فيسبوك يُجهّز لتسهيل التطبيق للتواصل داخل الشركات الصغيرة

GMT 20:34 2018 الإثنين ,15 كانون الثاني / يناير

حبيب الممثلة المطلقة أوقعها في حبه بالمجوهرات

GMT 04:40 2017 الأربعاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

أشرف عبد الباقي يسلم "أم بي سي" 28 عرضًا من "مسرح مصر"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon