لنشاط الذى تشهده بعض مؤسسات الدولة، فى السينما والمسرح والدراما التليفزيونية، يوحى برغبة فى استعادة دور القوة الناعمة لمصر، ويؤكد أن هناك من يرون فرصة مواتية للتمدد على المستوى الثقافي، والسعى للاستفادة من الأجواء الطامحة إلى تعويض سنوات ماضية من الركود.
الحيوية التى نراها فى تقديم أعمال متقنة، جزء من توجه لدى قطاع من المهتمين بالشأن العام، يريد توظيف الدعم المباشر والضمنى الذى تقدمه الحكومة، وهو ما ظهرت تجلياته فى حراك هيئات مهتمة بصناعة الثقافة، كمفهوم ناعم يضفى على الدولة بريقا وحضورا ونفوذا غاب لفترة من الوقت.
الطريق الذى يسير فيه هؤلاء، من الممكن أن ينجح فى تحقيق جانب معتبر من متطلبات الدولة العصرية، لكن الروتين الذى يواجهه البعض، وإصرار الآخرين على تغليب ثقافة الكرنفال يعرقل الوصول إلى تقدم يطول الكثير من الهيئات العاملة فى فضاء الثقافة بمفهومها الشامل، لأن الاجتهادات فى معظمها فردية، وتفتقر لرؤية كلية تعى الأهمية الإستراتيجية للقوة الناعمة المصرية.
مع ذلك يجب أن يترك المجتهدون فى نطاق المؤسسات الخاصة، التى تخرج منها قيم نوعية جديرة بالمتابعة، تعبر عن جوهر الابداع، وتشمل مجالات مختلفة، وبدأ هذا الاتجاه يحقق رواجا يعزز القدرة على إحياء القوة الناعمة، مع جهات رسمية قليلة تدرك أهميتها ويحاول بعض العاملين فيها (الجهات) مواكبة الزخم على المستوى الخاص.
بعيدا عن التعقيدات التى يصطدم بها هؤلاء، بدأوا فى التحرك من خلال نشاط دب فى عروقهم أملا فى التجديد، وهى جهود ظهرت ملامحها فى عدد من هيئات الثقافة والإعلام أخيرا، وإذا تجاوزوا النظرة الضيقة لبعض القضايا وتعاملوا معها باعتبارها مهمة وطنية وليست شرا لابد منه، يمكن إضافة بعد إيجابى ظل خاملا لفترة طويلة، عن عمد أو جهل.
بالتوازى مع التحركات التى تقوم بها مؤسسات عامة وخاصة، هناك دور كبير يقوم به أفراد، باجتهاد شخصى منهم ودون تخطيط وتنسيق مع آخرين، يقدمون نموذجا جيدا للقوة الناعمة، ويعبرون عنها بإيجابية، ويلقون استحسانا يؤكد التقدير لمواهبهم ورؤاهم، بما يفوق غيرهم ممن يعملون فى مؤسسات رسمية وينخرطون فى أنشطتها بلا هوية ثقافية.
هذا الفريق يتكون من أشخاص يعمل كل منهم فى تخصصه، نجحوا بتفوقهم فى تغيير انطباعات سلبية عن مصر، عزفت على لحن تراجع قوتها الناعمة، وتآكل نخبها، وفشلها فى التأثير الثقافي، والإخفاق فى استعادة دورها الريادي.
ربما يكون أصحاب هذه النظرة معذورين، لأن هناك من يصمت على تصرفات عدد ممن يتصدرون المشهد الثقافى والإعلامى ويسيئون للدولة أكثر مما يضيفون لها، ويخصمون من رصيدها الحضارى المتراكم، ومنهم من كان سببا فى توتر العلاقات مع بعض الدول ذات المصالح الحيوية، مع ذلك يحظى هؤلاء بدعم ضمنى وعلني، بدليل التصميم على بث رسائلهم السلبية، بينما ثمة قوة بعيدة عن الأضواء تلعب دورا مهما فى تصويب ما أفشله آخرون.
القوة الناعمة المستترة، إذا جاز التعبير، تعمل وفقا لمنظومتها الوطنية التى لا تختلف مع التوجهات الرسمية وثوابتها الرئيسية، بل هى داعمة لها، وتمتاز بمساحة جيدة من الحركة نتيجة استقلالها المهني، وأصحابها بالطبع معروفون، لكن لا يتم الاستعانة بهم، ربما لأنهم غير منخرطين فى شلة أو يمكنهم الاعتراض فى اللحظات الحاسمة.
أعضاء هذا الفريق من المخلصين، يدعمون النظام الحاكم ولا ينتمون لأحزاب سياسية، ويمثلون شريحة مؤثرة فى المحيط الذى يعملون فى نطاقه، لكن لديهم قناعة أن الانتقادات الموضوعية والتعاطى بمهنية مسألة مهمة للتعبير عن القوة الناعمة الحقيقية.
مع أن الأجهزة الحكومية تغض الطرف عنهم ولا تريد أن تراهم قريبين منها، لكن دورهم يحظى بقبول لدى مؤسسات رسمية تتابع معالم المشهد المصرى بكل جوانبه، وترى فيهم رصيدا متينا، يعملون بمفردهم وحصيلة اجتهادهم تصب فى مربع استعادة الريادة المصرية، ويمثلون مخزونا يمكن الاستعانة به، عقب الانتهاء من مرحلة البناء والوصول إلى مرحلة الانطلاق.
المؤكد أن الطموحات العريضة التى عبر عنها الرئيس عبدالفتاح السيسي، تحتاج إلى بديل محترم من النخب السياسية والمثقفين والإعلاميين، بإمكانهم التعبير عن القدرات الكبيرة للدولة، ورسم خريطة طريق لاسترداد القوة الناعمة لمصر.
حدثنى مرة عالم سياسة مصري، عن اعتماد الدولة تاريخيا على نسبة ضئيلة من المحترفين والموهوبين فى مجالات مختلفة، الفكر والثقافة والإعلام والسياسة والاقتصاد.. وغيره، لا تتجاوز نسبتهم 3 بالمائة من عدد سكان مصر، وكان يضرب المثل بالفترة التى تلت ثورة يوليو 1952 وحتى حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، وقال هؤلاء هم الذين حافظوا على قوة مصر الناعمة.
وأوضح أن هذه النسبة تراجعت الآن، ولم تعد تتجاوز نصف بالمائة، ورغم قلتها تستطيع التأثير إذا جرى توظيفها بشكل جيد، وأرجع التآكل إلى عوامل عدة، أبرزها أن من يختارون العناصر المحركة للثقافة ينطلقون من تغليب المصالح الشخصية على الوطنية.
الكلام الذى حرص عالم السياسة على توضيحه فى حوار قد يأتى وقت الحديث عنه تفصيلا، يؤكد أن النخبة هى التى تمثل الثقل الكبير للدولة، وتدهورها، بندرتها أو تخريبها، يقود إلى ضعف فى تأثير القوة الناعمة، وأن المؤسسات الرسمية لا تنحاز للنخب الشريفة فى تسيير الأعمال اليومية، لكنها تحتاج إليها فى المحكات الرئيسية.
وجهة نظره تقوم على ضرورة أن يكون هناك أشخاص يعملون بجدية لتنهض الأمة، وربما تستعين الدولة بغيرهم فى مرحلة ما، لأنهم الأقدر على تنفيذ الأوامر والتعليمات فى مرحلة لها خصوصية معينة، وفى النهاية تظل القوة الناعمة الحقيقية - الخفية هى البوصلة الثابتة لأى تقدم تنشده الدولة.
من يراقب المؤتمرات التى تعقدها مكتبة الإسكندرية يستطيع وضع يديه على نماذج جادة ومخلصة، لأن المكتبة درجت على استقبال جميع أنواع الطيف الثقافى فى مصر والعالم، ومرونة مديرها الدكتور مصطفى الفقى تستوعب الجميع بذكاء، ويدرك القائمون عليها أهمية القوة الناعمة بشقيها، العام والخاص.
نقلا عن الأهرام القاهرية