كأن قطاع غزة تنقصه الفتن كى تسعى قطر لزيادة الهوة بين حركتى فتح وحماس وتوظيف التناقضات بينهما، فالضجة التى صاحبت زيارة محمد العمادي، رئيس ما يسمى اللجنة القطرية لإعادة إعمار غزة أخيرا، تؤكد أن رحلة جديدة من رحلات الدوحة السياسية بدأت تحت غطاء إنساني.
قطر تحاول الاستفادة من الخلافات داخل الحركتين، وتوجد لنفسها الحجج اللازمة لدس أنفها سياسيا، ويتطاول العمادى على الرئيس الفلسطينى محمود عباس (أبومازن) ويتهمه بعدم قيامه بالرعاية الجيدة للمواطنين فى غزة، متصورا أنه سوف يكسب ود خصوم أبومازن فى فتح، أو يبدو قريبا من قيادات حماس التى تردد النغمة ذاتها. الرد الذى جاءه من فتح كان كفيلا بوقف تدخل العمادى والكف عن توجيه اللوم لاحقا للرئيس الفلسطيني، تصريحا أو تلميحا، والشتائم التى تعرض لها فى غزة والهجوم الذى وصل إلى حد رفع الأحذية فى وجهه من قبل مواطنين، كان كفيلا بتقديم درس جديد يثبت وعى الشعب الفلسطينى وإدراكه طبيعة الألاعيب التى تجيدها الدوحة فى مثل هذه الظروف.
النشاط القطرى هذه المرة جاء متزامنا مع جملة من العوامل، تحاول قطر أن تحقق من ورائها أهدافا سياسية، فالدوحة التى تعانى عزلة إقليمية تسعى إلى الاستفادة من الأزمة الإنسانية فى غزة، والتى بدأت أصداؤها تتردد فى دوائر غربية كثيرة، لتوحى بانها شريك فى تخفيفها، والتغطية على المعلومات الرائجة بأنها عنصر داعم للمتطرفين والإرهابيين فى المنطقة.
الدوحة تجاهد لتغيير الصورة الذهنية التى انتشرت بسرعة كحاضنة للإرهاب، وجدت فى المدخل الإنسانى فرصة لخداع العالم مرة أخرى، وأنها ليست شريرة كما يتصور كثيرون، متناسية أن لجنتها لإعمار غزة ظلت عاجزة أمام المأساة لفترة وبدأت الدماء تتحرك فى عروقها بعد أن أخذ العالم يضج مما يحدث فى غزة، محملا إسرائيل المسئولية السياسية عن الأزمة، بمعنى أن تدخل الدوحة لا يخلو من رغبة فى تبييض وجه إسرائيل.
الواضح أن قطر تريد القيام بدور معنوى فى صفقة القرن الأمريكية لتسوية القضية الفلسطينية والتى يتردد أن إعلانها أصبح وشيكا، والترويج لمعلومات زائفة تشى بأنها تستطيع المساهمة فى إزالة بعض المطبات السياسية، أو على الأقل التشويش على أدوار قوى إقليمية كبيرة، مثل مصر والسعودية، ومستفيدة من علاقتها الجيدة بإسرائيل. علاوة على علاقتها التقليدية بحماس، التى انكمشت بحكم بعض المتغيرات الإقليمية، لكن لا يزال كل طرف يحتفظ تجاه الآخر بود لم يعد خافيا، وتريد الإيحاء بأنها قادرة على تليين موقف الحركة حيال التسوية السياسية، والأهم استغلال معارضى المصالحة الفلسطينية وتشجيعهم على التمسك بموقف رافض منها لتخريب الجهود الرامية لحل هذه الأزمة.
الحاصل أن قطر، كعادتها تلعب على التناقضات لتمسك فى يدها بعض الأوراق، كى تتمكن من إيجاد موضع قدم لها فى حالتى الحل والعقد، ووجدت فى الأزمة الإنسانية فرصة جيدة، تدغدغ بها المشاعر وتعيد صياغة حساباتها وحشر نفسها فى برواز قد ينسى البعض أدوارها السلبية السابقة فى غزة.
الدوحة كانت أول من شجع الخلافات بين الفلسطينيين بالعزف على وتر التباين فى الرؤى بين منهجى فتح وحماس، وفى مقدمة من أشادوا بخطوة استيلاء الأخيرة على غزة عام 2007، الذى تحول إلى علامة تاريخية لتكريس الانقسام والفصل بين الضفة الغربية والقطاع، فهل من أسهم فى المأساة قادر على القيام بدور إيجابى على أى من مستويات القضية الفلسطينية؟
الأسلوب الذى تتبناه قطر حاليا، يرمى إلى محاولة التأثير على جهود مصر فى ملف المصالحة الفلسطينية التى قطعت شوطا كبيرا الآن، ومن الممكن تذليل ما تبقى من خلافات بين فتح وحماس والوصول إلى نتائج متقدمة خلال الفترة المقبلة. الوفد الأمنى المصرى الذى وصل إلى غزة قبل أيام يدرس خطوات عملية لحل مشكلة الموظفين الذين تتشبث حماس بعدم فصلهم، وتمكين حكومة الوفاق من إدارة المعابر بلا منغصات وممارسة دورها كاملا فى قطاع غزة، والتمهيد لما يتلو ذلك من استحقاقات انتخابية، أشار إليها اتفاق القاهرة فى أكتوبر الماضي.
التفاهم الظاهر بين مصر وحركة حماس، أمنيا وسياسيا واقتصاديا، أحد الأسباب الرئيسية التى تقف وراء النشاط القطرى المفاجئ، فوجود رئيس المكتب السياسى لحماس (إسماعيل هنية) لفترة ومعه قيادات كثيرة من الصف الأول والثانى فى الحركة، وعقد حوارات ومباحثات واجتماعات عديدة فى القاهرة، علامات على التمسك بدور مصر. وكل ذلك ينطوى على معان كثيرة، بينها أن مكانة الدوحة كمقر لغالبية قيادات حماس تراجعت، والحركة مضطرة لعدم الوقوف أمام تيار إقليمى ودولى جارف، يريد البحث عن رؤية عملية للتعامل مع القضية الفلسطينية، وتمسك الحركة بطريقتها التقليدية فى المناورات والتنصل من الالتزامات لم يعد مجديا. حماس تعى تماما أن استمرار التصاقها بقطر فى هذا التوقيت لن تجنى من ورائه مكاسب، بل على العكس يمكن أن يكبدها خسائر باهظة، فى زمن تسعى فيه قيادات الحركة للخروج من مأزق داخلى صعب، حيث يتجاذبها تياران، أحدهما يشجع الاتجاه نحو استكمال المصالحة، والآخر يحاول إجبارها على الفرار منها، ولجأت قيادات الحركة إلى القاهرة للتفكير بذهن مفتوح، لأن البقاء فى أحضان الدوحة يكبلها ويجعلها رهينة لرؤية التيار الثاني.
المعلومات المتوافرة تقول إن حماس تميل نحو التعامل مع المأزق الراهن بانتهازية شديدة، أى تفهم موقف التيار الثانى الذى يضع يده على الزناد، وتصدير قدر من المرونة لتحاشى التعرض لضغوط إقليمية، وأنها لا تزال تبحث عن بديل يأخذ فى اعتباره المتغيرات والتطورات على الساحة الإقليمية.
الإصرار على الازدواجية، خوفا وطمعا، يمكن أن يفوت عليها فرصة تصحيح الأخطاء التى وقعت فيها سابقا، وثمة قناعة لدى بعض قياداتها تدعم التفاهم مع مصر لأقصى مدى، بينما لا يزال هناك تيار يجذبها ناحية قطر التى تحاول الاستفادة منه حاليا. الكف عن ممارسة الدوحة لألاعيبها السياسية بحجج إنسانية، يقف على محك سد الثغرات من قبل فتح وحماس والتجاوب مع نداء مصر، وتوفير الحد الأدنى للتفاهم حول برنامج وطنى يفضى إلى تثبيت المصالحة.
نقلا عن الاهرام القاهريه