لم أستطع مقاومة إغراء الكتابة عن العملية العسكرية التى يقوم بها الجيش الوطنى الليبى فى طرابلس، فقد هالنى حجم المغالطات التى يرتكبها بعض السياسيين لتعويم الميليشيات ومحاولة منحها شرعية جديدة، وقد تصوروا أن الدفاع عن الإرهابيين ووضعهم فى كفة مقابل مؤسسة عسكرية نظامية يحفظ لهم مصالحهم مستقبلا.
الرسائل التى بعث بها لقاء الرئيس عبدالفتاح السيسى مع المشير خليفة حفتر قائد القوات المسلحة الليبية، الأحد الماضي، أصابت أهدافها مباشرة، وأكدت ضرورة التعجيل بالتخلص من الميليشيات، لأنها تعرقل الوصول إلى دولة مدنية، وتمثل خطرا على الأمن الإقليمي. كما أن تمترس عناصرهم فى طرابلس سوف يجذب إليهم أقرانهم فى بعض دول الجوار التى تريد قياداتها التخلص من متشدديها.
التجاهل المتعمد لأغراض المعارك التى يخوضها المتطرفون، وتوجيه الانتقادات للمشير خليفة حفتر، يرمى إلى التغطية على حقيقة الدور الذى يقوم به هؤلاء لمصلحة بعض الأطراف الإقليمية والدولية، ويمنح الإرهابيين فرصة لاستعادة زمام المبادرة بعد وصول شحنات من الأسلحة إليهم، من تركيا وقطر، تحمل معدات مختلفة، بينها صواريخ ستينجر الأمريكية المحظورة، وسفينة محملة بالألغام أخيرا، لنشرها على بعض الطرق الرئيسية لمنع المزيد من تقدم الجيش الليبي.
عملية طرابلس فرضتها ظروف أمنية ملحة، ولو تأخرت القوات الوطنية قليلا فى مواجهة الإرهابيين كان الليبيون سيجدون أنفسهم أمام واقع أشد ضراوة، فقد تحولت العاصمة إلى قبلة لكثير من القيادات القادمة من سوريا، على أمل أن تصبح مركزا بديلا لجمع فلول المطاردين وتنظيمهم بما يعيد الاعتبار لمشروعهم الذى فقد جانبا من بريقه لدى قوى دولية احتضنتهم ووفرت لهم ملاذات آمنة.
عندما يتمكن هؤلاء من إحكام سيطرتهم لن يصفحوا عن الشخصيات التى تتصدر مشهد الدفاع عنهم حاليا، وتجهد نفسها فى البحث عن مخرج سياسي، وسوف يتحولون إلى هدف سهل للمتشددين، لأنهم ينظرون إليهم كعملاء من الضرورى محاسبتهم على أفعالهم، ولن تشفع لهم التضحيات التى قدموها من أجل رعايتهم فى طرابلس والإغدقاء عليهم بسخاء.
ويأخذ التعويم السياسى أشكالا ملتوية فى ليبيا، أبرزها تصوير الأمر على أن هناك عملية عسكرية فى طرابلس تدور رحاها بين قوات تابعة لحفتر وأخرى تابعة لحكومة الوفاق، لصرف الأنظار عن طبيعة الدور المحورى الذى تقوم به العصابات المسلحة، والتفرقة بين الجيش الوطنى الليبى والمشير حفتر لنزع الغطاء الشرعى عنه لمصلحة الإرهابيين وتقدمت القوات المسلحة الليبية على جبهات كثيرة وأصبحت تحظى بشرعية دولية، وقائدها يتم التعامل معه فى وضح النهار من قبل رؤساء وزعماء دول عدة، ولها الآن هيكل مؤسسى معروف، وقيادة عامة ورؤساء أفرع، وتضم أطيافا مختلفة من أبناء الشعب، وينضوى تحتها ضباط وجنود من جميع المناطق الليبية، ولا تريد إهدار الفرصة المواتية لتكوين جيش قوى قادر على الدفاع عن الأمن القومى للبلاد، وصد المخاطر التى يجلبها تكاثر خلايا الإخوان وداعش والقاعدة ومن يلتحفون ثيابا سياسية من التنظيمات المؤدلجة. التفاصيل الرئيسية للتطورات العسكرية تؤكد أن المتطرفين والدول التى تدعمهم يعلمون أنهم يخوضون معركتهم الأخيرة فى المنطقة، فإما النصر وإما المقصلة، بعد أن جرى فضحهم وتتعثر عملية تسللهم عبر المؤسسات الرسمية، ويقاتلون بشراسة ويتصدرون الصفوف الأمامية، لأن خسارتهم فى طرابلس تعنى طى صفحتهم لعقود مقبلة، ولذلك ربما يحتاج الجيش الليبى بعض الوقت لتخليص العاصمة من قبضة الإرهابيين وجيوبهم الخفية.
التجاوزات التى ارتكبتها غالبية القوى السياسية والبعثة الأممية لم تترك للجيش فرصة للتعامل بمزيد من الليونة بعدما ضجر الناس من حكم الميليشات، الذى أفقدهم المقومات الأساسية للدولة. فقد أدى التلكؤ فى تنفيذ الترتيبات الأمنية التى أقرت فى سبتمبر الماضى إلى تصاعد خطر المسلحين، حيث فهموا أن عدم تخصيص المساعدات المادية اللازمة لوزارة الداخلية لحل قواعدهم يعنى بقاء الاعتماد عليهم. وقاد التلكؤ فى تغيير محافظ المصرف المركزى ورئيس المؤسسة الليبية للنفط إلى ضمان تدفق الأموال إليهم بلا هوادة. وبدا التركيز على الملتقى الجامع المجمد حاليا كأنه مشروع شخصى للمبعوث الأممى غسان سلامة، الذى نجح بامتياز فى تفريغه من مضامينه الوطنية، وحاول جره إلى مكونات إسلامية طاغية، وكان الإصرار على انعقاده دون توافر الشروط الموضوعية دافعا قويا لتحرك الجيش الوطنى للحسم وكى لا تفضى هذه الخطوة إلى واقع يشرعن وضع الميليشيات، فلا يمكن لدولة أن تقوم على أكتاف إرهابيين وقطاع طرق وتجار مخدرات وذوى مصالح آنية.
تفاهمات أبوظبى بين حفتر والسراج، فى فبراير الماضي، قدمت هدية جيدة للخروج من عنق الزجاجة، لكن مماطلات بعض الأطراف حالت دون ذلك، وفوتت عملية دمج التفاهمات فى الملتقى الجامع الفرصة على جنى ثمار هذا التحرك، ثم يأتى المتسببون فى الضياع للبكاء عليها للتغطية على تقاعسهم ومراوغاتهم السياسية، وتحميل جهة واحدة المسئولية. الجيش الليبى يقوم بخطوة جادة الآن لتطهير البلاد من الفوضي، فلن تستقيم الأمور السياسية مع خضوع الجهات المدنية لتعليمات تأتى إليها من قادة كتائب مسلحة وجماعات مؤدلجة. ولن تصل ليبيا إلى الهدوء والاستقرار من دون مؤسسة عسكرية موحدة قادرة على ضبط الأوضاع الأمنية على جميع الجبهات.
المثير أن بعض الشخصيات تتحدث الآن عن هدنة إنسانية، أو بمعنى أدق هدنة لالتقاط الأنفاس عقب الخسائر الكبيرة التى تعرضت لها العصابات الإرهابية. أين كان هؤلاء عندما احتجزت الميليشيات أعدادا كبيرة من الناس؟ ولماذا صمتوا عن الانتهاكات التى ارتكبت على مدى السنوات الماضية؟ وهو ما تشهد به تقارير منظمات حقوقية دولية محايدة تحدثت عن عنف ممنهج ومجازر واسعة طالت الكثير من المواطنين.
تبسيط الأزمة ومحاولة اختزالها فى البعد الإنسانى وكفى دغدغة لمشاعر المجتمع الدولى من قبل البعثة الأممية، وحرفها عن السبيل الصحيح، ويدخل ليبيا فى دروب ودهاليز جديدة، ويمنح الجناة وقتا لإعادة ترتيب أوراقهم، بينما المطلوب من جميع الأطراف الدولية أن تقف على مسافة واحدة من القوى المتباينة، وتعيد النظر فى توجهاتها المرتبكة لأنها قد تكون مقدمة لحرب أهلية تضر بمصالحها لاحقا، وعليها أن تتكاتف لمساعدة القوات المسلحة الليبية لتخليص المنطقة من كابوس مرعب.
نقلًا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع